د.نادي شلقامي
الغربة… ليست مجرد مسافات تُقطع أو حدود تُعبر، بل هي وطن آخر يعيش في قلب المغترب، وطن من شوق وحنين وألم صامت. لكل مصري رحل إلى الخليج، سواء كان عاملاً يكدّ من الفجر حتى الليل، أو مدرسًا يحمل العلم إلى أبنائنا في الغربة، أو مهندسًا يبني جسور المستقبل، أو مسؤولًا كبيرًا يتخذ القرارات بعيدًا عن أرضه، الغربة واحدة… نفس الحنين، نفس الوحدة، نفس الصراع بين القلب والمكان.
في الغربة، يصبح كل يوم امتحانًا للصبر، وكل ليلة لقاءً مع الذكريات. رائحة خبز من الأسواق، صوت طفل يلعب في الشارع، ضحكة جارٍ قديم، كل ذلك يتحول إلى شجن يسكن الروح. العامل يسهر ساعات طويلة لتأمين لقمة العيش، والمدرس يحلم بأن تصل رسالته إلى الطلاب كما لو كان في مصر، والمهندس يضع اللبنات ليبني مستقبلاً أفضل، ومع كل إنجاز، يبقى الحنين للوطن أقوى، لا يُطفئه النجاح ولا يُسكنه الغياب.
الغربة تعلم المغترب معنى الصبر، معنى المثابرة، وتزرع فيه قوة الروح. لكنها أيضًا تعلمه أن الوطن ليس مكانًا فحسب، بل هو إحساس يتغلغل في القلب، وشعور لا يزول، وأن أي لحظة بعيدة عن أهله وأحبائه تحمل درسًا عن الحب والانتماء. وفي كل رسالة، وكل مكالمة، وكل صورة تصل من أرض الوطن، ينبض قلب المغترب بالحنين، ويزداد تعلقه بجذوره، وكأن المسافة تزيده وفاءً وحبًا.
الغربة ليست مجرد غياب عن الوطن، إنها حياة في صمت الشوق، رحلة داخل النفس، ومعركة بين العقل والقلب. والمغترب، مهما علت مكانته أو عظمت مسؤولياته، يظل قلبه مربوطًا بوطنه، وروحه تتغذى على ذكرياته. الغربة تعلمنا أن الوطن هو كل لحظة حب نحملها في قلوبنا، وكل نسمة من هواء الحنين، وأن المسافة مهما طالت لا تستطيع أن تبتعد بنا عن جذورنا.
“الغربة” : وطنٌ ينبض في قلب المغترب وشجن يسكن الروح
166
المقالة السابقة
