كتب م / رمضان بهيج
أصعب ما في الفقد ليس الغياب، بل أن تكتشف أنك كنت عبئاً في مكانٍ ظننت أنه وطنك.
غُربة الروح في قلبِ مَن نُحب .
لا شيء يكسر كبرياء النفس مثل ذلك الشعور البارد الذي يتسلل إلى قلبك حين تدرك أنك أصبحت “حملاً ثقيلاً” على شخصٍ كنت تظن أنك جزءٌ من روحه. أن تحب بصدق، وتمنح بفيض، ثم تكتشف فجأة أن وجودك لا يُضيف إليهم شيئاً، وأن غيابك لا ينقص منهم ذرّة.
مرارة الإدراك
إنها لحظة الحقيقة المُرّة؛ حين تبحث عن مكانك في يومهم فلا تجد سوى الهامش، وحين تصبح رسائلك “واجبًا” يتهربون من أدائه، وكلماتك “ضجيجًا” يودون لو يسكت. الأصعب من الفراق هو البقاء وأنت تعلم أنك لم تعد مرغوباً بك، أن ترى في أعينهم نظرة “الاضطرار” بدلاً من “الاشتياق”.
بين الحب والكرامة
كيف يمكن لقلبٍ يحب بهذا القدر أن يكون ثقيلاً؟ الإجابة تكمن في أن الحب من طرف واحد ليس رحلة، بل هو ركضٌ طويل في طريق مسدود. عندما تشعر بأنك تفرض وجودك فرضاً، وبأن اهتمامك يقابل بالبرود، والاحتياج يقابل بالاستغناء، هنا يصبح الانسحاب ليس خياراً، بل هو طوق النجاة الوحيد لكرامتك.
”إن الذي يحبك حقاً، لن يشعرك أبداً بأنك كثيرٌ عليه، ولن يجعل من وجودك عبئاً يحاول التخلص منه. فمن يحتاجك، يخلق من العدم مكاناً لك.”
الفقد يلتمس وتراً حساساً في الروح؛ فهي لا تتحدث عن الفقد العادي، بل عن “الفجيعة” في الانتماء. أن يتحول الملجأ إلى منفى، والوطن (سواء كان شخصاً أو مكاناً) إلى ثقلٍ كنت تحمله بينما كان هو ينتظر لحظة التخلص منك.
غربة الروح في “الوطن” المتخيّل
لم يكن الوداع هو ما كسرني، فالراحلون اعتدنا زحامهم في ذاكرتنا. ما كسرني حقاً هو ذلك الاستيقاظ المفاجئ على حقيقة أنني كنت أحارب لأجل مكانٍ يضيق بي، وأتمسك بيدٍ كانت تتحين الفرصة لترخي قبضتها.
أصعب الفقد ليس في خلوّ المكان، بل في اكتشاف الحيز الذي كنت تشغله:
كنا نظن أننا الأعمدة التي يستند إليها السقف، فإذا بنا نكتشف أننا كنا مجرد “زينة” ثقيلة يرهقهم بقاؤها.
كنا نحسب أن صمتنا صبراً، وحديثنا حباً، فإذا به يُقرأ كضجيجٍ لا يطاق.
بنينا من تفاصيلهم بيوتاً، وسكنا في وعودهم، لنكتشف في النهاية أننا كنا “ضيوفاً ثقلاء” في ذاكرة لم تفتح أبوابها لنا يوماً بصدق.
يوجعك أن تدرك أنك استهلكت سنواتك في تجميل وجه “الوطن” الذي كنت تسكنه، بينما كان هو يعدّ الأيام ليعلن لافتة “لا مكان للأغراب”. أن تكتشف أنك كنت عبئاً، يعني أن كل تضحياتك كانت تُرى كطلبات، وكل حنينك كان يُفسّر كحصار.
”ليس أشد إيلاماً من أن تعود غريباً من مكانٍ كنت تخلع فيه دروعك لترتاح، لتكتشف أنك كنت العدو الذي يخشون هجومه، أو العبء الذي ينتظرون سقوطه.”
العزاء الوحيد في هذا الاكتشاف، رغم مرارته، هو أنه يمنحك أخيراً الحق في الرحيل دون التفات. فالمكان الذي يراك عبئاً لا يستحق حتى أن تترك فيه ظلك.
نصيحة من القلب:
من يجعلك تشعر بأنك ثقيل عليه، هو في الحقيقة لا يستحق خفة روحك ولا صدق مشاعرك. الغياب بكرامة أجمل بآلاف المرات من البقاء بذلّ. ؟
