تحدي الخرف بالعِلم والحب

د/حسين السيد عطيه
يُحيط بمرض الخرف في اليابان – كما في أماكن كثيرة من العالم – هالة من الخوف واليأس، وكأنه حكم نهائي بانتهاء كل ما يمنح الحياة معناها. لكن عالمة الأعصاب أونزو أياكو، التي خاضت تجربة شخصية مؤثرة عندما أُصيبت والدتها بالخرف، ترى أن هذا المرض لا يُلغي جوهر الإنسان ولا يُطفئ قدرته على الشعور، التواصل، والعيش بكرامة. في هذا الحوار العميق، نستكشف مع أونزو الطبيعة الحقيقية للخرف، ونسلط الضوء على ما يغفله كثيرون: أن خلف ضباب النسيان، هناك إنسان لا يزال حاضرًا، يستحق الفهم والاحترام، في مجتمع يشيخ بسرعة ويواجه تحديًا متناميًا مع كل عام.
أونزو أياكو
عالمة أعصاب، وباحثة مشاريع في كلية الدراسات العليا للفنون والعلوم بجامعة طوكيو، ومحاضرة بدوام جزئي في جامعة كينجو غاكوين، وجامعة واسيدا، وجامعة اليابان للسيدات. ولدت عام 1979 في محافظة كاناغاوا. وحصلت على درجة الدكتوراه في علم الأعصاب الإدراكي عام 2007 من معهد طوكيو للتكنولوجيا. ألّفت أعمالًا، منها (عندما أصيبت أم عالمة أعصاب بالخرف). ظهرت في فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة اليابانية عام 2023 ركّز على تجاربها المعيشية مع والدتها؛ وتُركّز حاليًا في عملها على القدرات العاطفية الغنية لمرضى الخرف الشديد، وعلى إبداعات كبار السن.
تحدي الخرف
لاحظت أونزو أياكو لأول مرة تغيرات في والدتها، التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 65 عامًا، عام 2015. حيث كانت هناك سلسلة من الحوادث الدالة على ذلك، مثل ذهاب والدتها إلى المتجر لشراء حساء الميسو (حساء ياباني تقليدي) وعودتها خالية الوفاض. كان هذا أمرًا مستغربًا للغاية على شخصٍ واعيٍ ومستقر ذهنيًا مثلها.
ولسببٍ ما، ترددت في اصطحاب والدتها إلى الطبيب، وأجّلت ذلك لمدة عام. ووفقًا لأونزو، ”ظللتُ أردد في نفسي: ”هذه الأمور تحدث للجميع“. لم أستسيغ فكرة أنها مريضة“.
في هذه الأثناء، ازداد انزعاجها من أخطاء والدتها المتكررة، ووبختها أكثر من مرة. وهو ما تندم عليه أونزو بشدة الآن. ”عاتبت أمي أكثر من مرة، الأمر الذي أفقدها ثقتها بنفسها. على الرغم من أنني التي أجلت تشخيص إصابتها بالخرف، ولو كنت عاملتها باهتمام أكثر حينها، لكان الأمر مختلفًا تمامًا لاحقًا”. في بعض الأحيان، كانت والدتها تقف حائرة في شرود تام.
”الخرف“ كلمةٌ مؤثرةٌ للغاية. حتى كعالمة أعصاب، لم تُرِد الاعتراف بأن هذا المرض يؤثر على أحد أفراد عائلتها.
تحضير حساء الميسو سويًا
عندما اصطحبت أونزو والدتها أخيرًا إلى الطبيب، كشف فحص التصوير بالرنين المغناطيسي أن ”الحُصين“، وهو جزء من الدماغ يتحكم في الذكريات قصيرة المدى، قد تقلص. وشُخِّصت حالتها بخرف الزهايمر. وقد صُدمت والدتها عندما علمت بالتشخيص، لكن بصفتها عالمة أعصاب، أدركت أونزو أن عليها مواجهة الواقع، وعزمت على فعل ذلك.
استعادت رباطة جأشها، وقالت لنفسها: ”إنه مجرد تلف طفيف في ”الحُصين“. أما مناطق دماغها الأخرى فهي بخير، وهناك العديد من الأشياء التي يمكننا اتخاذها حيال ذلك. فليس الأمر كما لو أن حالتها ستدهور على الفور”.
وكان أول ما اتخذته هو إرساء روتين جديد: يتضمن تحضير حساء الميسو مع والدتها. فعندما يتضرر ”الحُصين“، يصعب عليها تذكر ما حدث للتو. فعلى سبيل المثال، إذا كنتِ تعد الحساء، فقد تنسي ما تفعله في منتصف الطريق، وتصبح غير قادر على الاستمرار. لكن والدتها كانت لا تزال قادرة على استخدام السكين بمهارة لتقشير الخضراوات وما إلى ذلك.
وتشرح أونزو قائلةً: ”المهارات الحركية لا تزول، لأنها تُنظمها أجزاء من الدماغ خارج منطقة الحُصين. وكلما سألتني أمي: ʼماذا كنت أفعل للتو”، كنتُ أُذكّرها بأننا نُحضّر الحساء، ثم نتابع التحضير. حيث كنتُ أقوم بدور دور الحُصين لديها“. وتروي أن حالة والدتها لم تتدهور بسرعة، وتمكنا سويًا من مواصلة إعداد الحساء لمدة ثلاث سنوات.
العلاج الموسيقي
ازدادت الحاجة إلى رعاية والدتها تدريجيًا، وترددت على إحدى دور الرعاية لفترة. وأخيرًا، في عام 2021، شُخِّصت حالتها بالخرف الشديد.
وحاولت أونزو استخدام العلاج الموسيقي، لأن والدتها كانت مولعة بالموسيقى، حيث كانت معلمة بيانو، وهي مهنة تتطلب مهارات موسيقية متقدمة. ودعت معالجة نفسية إلى منزلهما، وبمجرد أن بدأتا العزف على البيانو، تتذكر أونزو قائلة ”بدأت أمي بالغناء معها على الفور، متذكرةً اللحن والكلمات بدقة، على الرغم من أنه عادةً ما يجد المصابون بالخرف الشديد صعوبة في تكوين الكلمات“. ولكن في الواقع، لا ترتبط الموسيقى بمنطقة ”الحُصين“، بل بمنطقة مختلفة من الدماغ لا تتأثر عادةً بالخرف.
ومع أن الشخص الذي يعاني من تقلص في الحُصين لا يتذكر الأحداث الأخيرة، إلا أنه يستطيع تذكر أحداث من زمن بعيد، عندما كانت مشاعره في أوج نشاطها. مثلًا، ذكريات زلزال شرق اليابان الكبير عام 2011، الذي وصفته والدة أونزو بأنه ”مخيف“، لا زالت محفورة في ذاكرتها. وفي أحيان أخرى، كانت تسأل بغرابة: ”أين صغيري؟“.
في ذلك الوقت، كانت أونزو تعيش مع والديها، دون وجود أطفال صغار. ”عندما انتبهت جيدًا، لاحظت أنها كانت كثيرًا ما تقول هذا أثناء تناول الطعام. بدا وكأنها تبحث عن طفل لتطعمه. في الحقيقة كانت تتذكرني عندما كنت صغيرة. أدركت أن ذلك ينبع من غريزتها الأمومية الراغبة في رعاية طفلها”. كانت ذكريات العائلة وهم يتناولون الطعام معًا على مائدة الطعام تبدو مهمة جدًا بالنسبة لها.
العواطف هي الباقية
عندما يُصاب شخص ما بالخرف، تتراجع قدراته تدريجيًا. لكن أونزو تُؤكد: ”لا تضعف جميع وظائفهم الإدراكية، بل تبقى القدرة على الشعور بالعواطف“.
ولفهم آلية المشاعر الإنسانية، تخيّل أنك صادفت شيئًا يشبه الأفعى على جانب الطريق – سيقفز معظم الناس غريزيًا. وكما تقول أونزو: ”للحظةً، ترتجف، ويتصبب منك العرق البارد، وهو نابع من شعور نسميه ”الخوف“. بعد ذلك، تُدرك القشرة الحديثة أنه لم تكن أفعى، بل مجرد قطعة حبل“.
هذا التفاعل الجسدي الانعكاسي ناتج عن غريزة البقاء، التي تمتلكها جميع الكائنات الحية لحمايتها من الحيوانات المفترسة. أما بالنسبة للبشر، فإن ردود الفعل الجسدية ”لا تضمن بقاءنا فحسب، بل ترتبط أيضًا بمشاعرنا. وهذا يشمل مجموعة واسعة من المشاعر، مثل الحب، وتقدير الذات، وما نحبه ونكرهه“. إن الجزء الدماغي المرتبط بالتفاعلات الجسدية مقاوم للضمور، ولذلك نميل إلى الحفاظ على قدراتنا العاطفية.
مراكز تنظيم الدماغ
إنها ليست النهاية
في اليابان، يُقدَّر أن أكثر من 10 ملايين شخص يعانون من الخرف أو الضعف الإدراكي الخفيف، وهو مؤشر مُحتمل للإصابة بالمرض. وأسباب هذا المرض غير مفهومة تمامًا، ولكن وفقًا لأونزو، فكما يتراكم حمض اللاكتيك المُسبب للإرهاق عند استخدام العضلات، فإن عمل الخلايا العصبية في الدماغ يُنتج موادًا ثانوية تراكمها قد يكون ضار.
ويتخلص دماغنا من هذه الفضلات بشكل طبيعي، ولكن يُعتقد أنه إذا لم تتمكن وتيرة سرعة التخلص منها من مواكبة تراكمها، فالأمر يؤدي إلى تراكم مواد ضارة، مما قد يُلحق الضرر بالخلايا العصبية. ويبدو أن هذه النفايات تتراكم أكثر مع تقدمنا في العمر.
وتوصي بالمشي أو ممارسة تمارين خفيفة مماثلة كإجراء وقائي، وتوضح أنه لا يوجد حاليًا دواءٌ سحريٌّ لعلاج الخرف. وتؤكد قائلةً: ”نحن بحاجة إلى إدراك فكرة التقبُّل، التي تتجاوز مجرد الوقاية والعلاج. هناك خياراتٌ أخرى غير الاستسلام. من المهم أن نعي في نهجنا القيمة الحقيقية للإنسان“.
ويُعاني مرضى الخرف من مخاوف لا يستطيعون مشاركتها حتى مع عائلاتهم. فإلى جانب التنقل بين المنزل ومرافق الرعاية، من المهم أن تُتاح لهم فرص التفاعل مع غيرهم ممن يعانون من الخرف. ”حيث يسهل التحدث مع الآخرين الذين يمرون بنفس الموقف. فعندما يواجهون مشاكل، يمكن لمرضى الخرف الأكثر خبرة الاستماع إليهم وتقديم النصائح. وهذا أمرٌ لا تستطيع العائلة فعله حقًا”.
ظلت أونزو متمسكة باعتقادها بأن والدتها هي نفس الشخص الذي عرفته وأحبته دائمًا حتى وفاتها في مايو/أيار 2023 عن عمر يناهز 72 عامًا. وتتذكر أن والدتها كانت تدندن بألحانها المفضلة حتى اليوم السابق لوفاتها.