بقلم: عادل النمر
في زمن يزدحم بكل شيء إلا الصدق، تبهت الأصوات وتغيب الملامح، فنجد أنفسنا نبحث عن دفء لا يرى، وعن قلب يسمع أنيننا قبل كلماتنا. هناك، في عمق الصمت، تبدأ حكاية الأرواح التي تتحدث دون صوت، وتبكي دون دموع.
الوحدة ليست فراغ المكان، بل غياب من يشبهنا، من يفهم ما لا نقوله، ويقرأ الحزن في أعيننا دون أن نتكلم. إنها المسافة الصامتة بين قلوب كثيرة، لا يجمعها شيء سوى التظاهر بأنها بخير.
كم هو مؤلم أن تكون بين الجميع وتشعر بالغربة؛ أن تسكن بيتا مزدحم بالوجوه، لكنه فارغ من الدفء، ذلك الشعور الذي يجعل الروح تئن في صمت، والعيون تضحك لتخفي ما لا يُقال. كيف نبوح بعذاب قلوبنا، ونحن نعشق الكبرياء!
في زحام العالم وضجيج البشر، قد نجد أنفسنا غارقين في صمت لا يسمعه أحد؛ صمت لا يعني الراحة، بل وحدة تتسلل إلى أعماق الروح كخنجر بارد يغرس في القلب ببطء كل يوم.
أحيانًا لا يكون الصمت اختيارا، بل نداء خفيا من قلب مرهق لم يعد يجد في الكلام راحة، ولا في الرفقة أمانا. تلك اللحظات التي يجلس فيها الإنسان بين الجدران، محاطا بكل شيء إلا الدفء، تخبره أن الوحدة ليست غياب الناس، بل غياب من يفهمك حين تتحدث، ويشعر بك دون أن تتكلم.
قد تعيش بين مئات الوجوه، تبتسم وتشارك وتضحك، بينما في داخلك صحراء بلا ظل ولا صوت، سوى صدى حزنك. لكن رغم مرارتها، تمنحنا الوحدة صدقًا لا يمنحه أحد؛ تعيدنا إلى أنفسنا، وترينا من نحن حين لا يرانا أحد، وتعلمنا أن السعادة ليست في وجود الآخرين فقط، بل في قدرتنا على احتضان ذواتنا حين يبتعد الجميع.
ليست الوحدة أن تخلو من الناس، بل أن تمتلئ بالذكريات؛ أن تجلس بين الجموع وتشعر أن قلبك يجلس في زاوية أخرى، يراقبك بصمت كالغريب عنك. كم هو مؤلم أن تشعر أنك لم تعد تنتمي لأي مكان، لا بيت، ولا حضن، ولا حديث يدفئ المساء.
تمر الليالي طويلة كأنها تعاقبك على صدقك؛ تغمض عينيك فتراها تلك الوجوه التي أحببتها وتفتحها فلا تجد أحدًا. تسير بخطوات واهنة، كمن يبحث عن شيء لا يعرف اسمه، عن لمسة تعيد النبض، عن نظرة تطفئ الفراغ الذي يشتعل في صدرك.
يا لهذا القلب الذي لا يتعلم! ما زال يصدق أن الحب شفاء، وأن العيون يمكن أن تكون وطنا. يمنح كل ما فيه، ثم يعود وحيدا، أكثر صدقًا وأكثر وجعًا.
ورغم ما تحمله الوحدة من وجع صامت، تظل بابا خفيا نعود منه إلى ذواتنا، لنكتشف أن الله وحده لا يغيب، وأن من عرف طريقه إلى قلبه لن يضل في ظلام الحياة أبدا.
