بقلم: د. نادي شلقامي
في قرية “كفر الوداع” إحدي قري الصعيد الأوسط ، حيث تتمازج رائحة الطين مع عبير البرسيم، وحيث يدور ناعور الساقية بدورة الحياة الرتيبة، كان “الشيخ محروس” يُمثّل روح القرية، أو ربما “عينها الناظرة” التي ما بخلت قط بالنصح والخير.
لم يكن الشيخ محروس ثرياً بالمال، بل كان غنياً بالبصيرة والعلم الذي تعلمه بنفسه من كتب متناثرة ودروس حياة قاسية ومن بعض مشايخ الأزهر الأوائل. كان الفلاحون يلجأون إليه قبل اللجوء إلى “العمدة” أو “المأمور”. كان هو “النافع” بفعله وكلمته. حين تجفّ الترع، كان أول من يطالب بتطهيرها. حتي تتسع الماء الوفير وحين تشتد الخصومات بين العائلات، كان صوته الهادئ كفيلاً بإطفاء نار الفتنة. كان يداً تبني وسانداً لا يميل لكل فرد من أفراد القرية.
وفي الآونة الأخيرة، ومع زحف “التطوير” غير المدروس على القرية، بدأ النافع يتقلص فقدت “الجمعية الزراعية” دورها الأصيل في دعم الفلاح، بالسماد والتقويم والإرشاد الزراعي وحلّت محلها مكاتب “السمسرة” وتجار الأراضي الجشعين. حتى “الترعة” التي كان يحرص الشيخ على تطهيرها، أهملت حتى غارت فيها القمامة وتكاثرت الحشائش.
لكن الصدمة الكبرى كانت عندما قرر ابنه الوحيد، “حسن”، بيع قطعة أرض ورثها عن جده، وهي كانت “وقف” لزراعة “نخيل البلح” الذي تتبارك به القرية. وعند جنب محصول البلح كان يوزع جزء كبير منه علي أفراد القرية ، جاء حسن من المدينة بملابسه اللامعة وكلامه المعسول عن “الاستثمار” و”المشاريع الحديثة”، وعرض عليه أحد رجال الأعمال شراء الأرض لتحويلها إلى “مخزن للمعدات”.
في تلك الليلة، لم ينم الشيخ محروس. جلس على مصطبة الطين أمام منزله، يحدق في نجوم لم يعد يراها بوضوح. رأى في تلك الأرض تاريخه، وتاريخ أبيه، وتاريخ كل من مرّ من القرية وترك أثراً نافعاً. رأى فيها البلح الذي كان يُوزع صدقة، وسنابل القمح التي كانت تطعم الجياع.
في الصباح، اجتمعت العائلة في حديقة البيت. نظر إليهم الشيخ محروس بعينين زائغتين، ثم قال بصوت هزيل: “يا ولدي يا حسن، الأرض دي مش فلوس تحطها في جيبك. الأرض دي نافع. النفع ده بيمشي في عروقها زي المية. لو بعتها عشان تبني مخزن، هيكون المخزن ده شاهد على إننا خسرنا النافع اللي ورثناه”.
لم يقتنع حسن. كانت جاذبية المال أقوى من جاذبية التراب. تمت عملية البيع، وبدأ جرافة ضخمة تقتلع النخيل.
عندما رأى الشيخ محروس الجرافة تقتلع آخر نخلة، لم يصرخ، ولم يغضب. بل سقطت دمعة من عينه على طين الأرض الجاف. لم تكن دمعة على المال الضائع، بل على النافع الزائل.
في الجنازة التي أقيمت بعد أسبوع من بيع الأرض، لم يمت الشيخ محروس بمرض. مات “حزناً على النافع”. كان العزاء هادئاً، لكن الهمس كان قوياً. الفلاحون الذين أحبوه كانوا يرددون عبارة واحدة بصوت خفيض:
“ده مات قهر… العين تبكي علي النافع اللي راح من القرية”.
فالقرية لم تخسر شيخاً وحسب، بل خسرت اليد التي كانت تبني والروح التي كانت تعطي دون مقابل. خسرت معنى “النفع” الذي كان يحافظ على جذورها، ليحل محله أسمنت بارد ومصالح شخصية جشعة. ومنذ ذلك اليوم، بدت سماء القرية أكثر عتمة، وكأن الشمس نفسها حزنت على النافع الذي وارته الأيام الثقيلة.
