العلم الذي لم يُؤدِّب صاحبه

نور محمد
العلم نور، لكنه أحيانًا يصبح نارًا تحرق صاحبها قبل أن تمتد إلى الآخرين. فهو في أصله وسيلة للرقي العقلي والتقدم الإنساني، لكنه إن لم يُهذّب بالأخلاق، فقد يُصبح أداة للغرور، أو سلاحًا للفساد، أو وسيلة للهيمنة والاستغلال. وهنا يأتي السؤال الجوهري: ما قيمة العلم إن لم يؤدب صاحبه؟
إن أول ما يلفت النظر في قضية العلم غير المؤدب هو أن صاحبه قد يكتسب معرفة واسعة في شتى المجالات، لكنه يظل فقيرًا في القيم. فترى من يملك ناصية الطب لكنه يفرط في ضميره، ومن يتقن القانون لكنه يحيد عن العدل، ومن يفهم في السياسة لكنه يضلل العقول. فالمعرفة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى توجيه أخلاقي يضبط مسارها، وإلا تحولت إلى وسيلة لإفساد الأرض بدلًا من إصلاحها.
لنا في التاريخ أمثلة كثيرة على علماء أبدعوا في مجالاتهم، لكنهم استخدموا علمهم لإيذاء البشر، مثل العلماء الذين طوروا أسلحة الدمار الشامل، أو الذين أجروا تجارب غير إنسانية على البشر، أو من سخّروا الإعلام والتكنولوجيا لخداع الشعوب والتلاعب بعقولهم. هؤلاء لم يكن ينقصهم العلم، بل كان ينقصهم الضمير.
العلم الحقيقي لا يكتمل إلا إذا صاحبه التواضع. فكلما ازداد الإنسان علمًا، أدرك ضآلة معرفته أمام عظمة الكون واتساع الحقيقة. لكن بعض من حازوا العلم وقعوا في فخ الغرور، فظنوا أنهم بلغوا الكمال، وتعاملوا مع الآخرين باستعلاء، ورفضوا الاعتراف بخطئهم.
العالم الفذّ هو من يظل تلميذًا مدى الحياة، يبحث ويسأل ويناقش دون أن يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة. وهذا هو الفارق بين عالم متواضع يُلهم الآخرين، وعالم مغرور يسعى للسيطرة عليهم.
العلم ليس مجرد وسيلة لتحقيق النجاحات الشخصية، بل هو مسؤولية تجاه المجتمع والإنسانية. فالعالم الحقيقي هو من يضع علمه في خدمة الخير، وليس في خدمة الأطماع الشخصية أو المصالح الضيقة.
ولهذا، فإن المجتمعات التي تنشئ أجيالًا من العلماء دون أن تزرع فيهم القيم، تُنتج في النهاية عقولًا حادة لكنها بلا قلب، وعباقرة في التحليل لكنهم قساة في التعامل، وأصحاب عقول جبارة لكنهم بلا إنسانية.
إذا كان الجهل كارثة، فإن العلم الذي لم يؤدب صاحبه هو كارثة أعظم. فالأول يضر عن غير قصد، أما الثاني فيضر عن وعي وإرادة. ولذلك، فإن أعظم ما يمكن أن يغرسه أي مجتمع في أبنائه ليس فقط حب المعرفة، بل أيضًا القيم التي تهذبها، حتى يكونوا علماء ليس بعقولهم فقط، بل بضمائرهم أيضًا.