سالي جابر
أخصائية نفسية
ليس السقوط هو المفاجأة…
المفاجأة الحقيقية أننا كنا نرى كل شيء، ونختار الصمت.
نحب الأقنعة لأنها مريحة، لأنها تُجنّبنا الخسارة السريعة،
ولأن الحقيقة غالبًا ما تكون أثقل من قدرتنا على المواجهة.
نصدق اللطف المبالغ فيه، ونغضّ الطرف عن التناقض،
ونسمي الحذر حكمة، والتجاهل نضجًا،
ونقنع أنفسنا أن الصمت أحيانًا أذكى من قول ما يجب قوله.
لم يكن الفلاسفة بعيدين عن فكرة القناع.
فـنيتشه رأى أن الإنسان لا يعيش حقيقة واحدة، بل يرتدي أقنعة متعددة، لا ليخدع الآخرين فقط، بل ليحمي هشاشته من الانكشاف.
أما كارل يونغ، فاعتبر “القناع” (Persona) واجهة نفسية نستخدمها لننال القبول الاجتماعي، لكن الخطر الحقيقي يبدأ حين ننسى أننا نرتديه، فنخلط بين ما نُظهره للناس وما نحن عليه فعلًا.
بينما تحدّث جان بول سارتر عن “سوء النية”، حيث يكذب الإنسان على نفسه قبل أن يكذب على غيره، متقمصًا أدوارًا يفرضها المجتمع، هربًا من عبء الحرية ومسؤولية الاختيار.
وهكذا، لا يصبح القناع مجرد خدعة، بل آلية بقاء.
نرتديه في العمل لنُرضي السلطة، وفي العلاقات لنضمن الاستمرار، وفي الأماكن التي تُكافئ التصفيق أكثر مما تُكافئ الصدق…لكن القناع لا يُتقن دوره إلى الأبد.
يتعب، ينهك صاحبه.
ويبدأ في التشقق عند أول اختبار حقيقي:
خلاف، مصلحة، سلطة، أو لحظة يُطلب فيها موقف واضح لا يحتمل المواربة.
حين يسقط القناع، لا يتغير الإنسان.
نحن فقط نراه كما كان دائمًا.
بأنانيته غير المعلنة،أو بخوفه العميق من الرفض،
أو بحاجته المستمرة لأن يُصفَّق له كي يشعر بوجوده.
المؤلم ليس سقوط القناع، بل إدراك أننا شاركنا في التمثيلية، أننا صفقنا، وسكتنا، وبررنا ما لا يُبرَّر،حتى لا نُتَّهم بالحدّة، أو نُقصى من المشهد.
في البيئات التي تكره الصدق، لا يُعاقَب الخطأ بقدر ما يُعاقَب الوضوح.
لأن الوضوح يفضح القواعد غير المعلنة، ويكشف هشاشة الانسجام المزيّف، ويجعل القناع يبدو فجأة ثقيلاً، غير محتمل.
القناع لا يسقط فجأة…
هو يسقط حين يصبح الاستمرار في الزيف أثقل من مواجهة الحقيقة.
والسؤال ليس: لماذا سقط القناع؟
بل:
كم مرة رأيناه يتشقق،
واخترنا أن نُشيح بوجوهنا؟
