بقلم : رانيا ضيف
اعتدتُ، قبيل انقضاء كل عام، أن أقف مع نفسي وقفة صدق، أُعيد فيها حساباتي، أقيم طريقي، وأُنقح دوائر معارفي وعلاقاتي.
لم تكن تلك الوقفات يومًا هينة، ولا مرت علىَّ مرور العابرين؛ فنفسي كانت دومًا أشبه بمهرة جامحة، ترفض اللجام، وتأنف الاستسلام، ولا تخضع لمحاسبة أو عقاب، ولا تميل إلى الاستعطاف أو اللين.
نفسٌ حرة متمردة، حتى أرهقني تمردها.
كنتُ أستقوي عليها مرة، وأُحايلها مرات، وأحيانًا أتركها تسبقني حتى تتعب وحدها.
غير أن هذا العام كان مختلفًا.
بعد أن تخلّصتُ من صراعات طويلة أنهكت سلامي النفسي والفكري، وبعد أن اخترتُ السلام خيارًا لا هروبًا، والطريق الأكثر اتساقًا مع ذاتي لا الأكثر إرضاءً للآخرين، تغيّرت طبيعة الأسئلة.
لم تعد أسئلة جلد للذات أو محاكمات قاسية، بل أسئلة ناضجة وهادئة:
-أين أنا الآن؟
-هل تحرّرتُ فعلًا من القيود التي ظننتها يومًا جزءًا مني؟
أم ما زلتُ أسيرة أفكارٍ ألفتها حتى كبلتني؟
-هل أطلقتُ سراح عقلي من أسر المألوف والمعتاد والمقدّس؟
-وهل منحتُ عقلي القداسة ذاتها التي منحتها لروحي، وهو الذي لا يقل عنها إعجازًا؟
هذه المرة لم أبحث عن إجابات.
كانت الأسئلة في حد ذاتها كافية.
كانت أشبه بعهدٍ أقطعه مع نفسي:
ألا أنصاع إلا لما يمليه عليّ ضميري، وأن أحرر عقلي من السياجات التي شيّدتها حوله بيدي، ومن القيود التي فرضتها على نفسي قبل أن يفرضها عليّ غيري.
في خضم هذه الوقفة، تذكّرت موقفًا لابنتي الصغيرة، ذات السبع سنوات حينئذٍ، حين نظرت إليّ بدهشة مفاجئة وكأنها تستكمل حوارا داخليا قائلة:
من الذي قال إن الله موجود؟ ولماذا صدقته؟
لم تكن صعوبة السؤال الاستنكاري في قسوته، بل في نقائه.
طفلة تستنكر فكرة التسليم بما لم تختبره، ولم تبحث عنه، ولم تفكّر فيه، وترفض أن تمر الفكرة دون سؤال.
أدركت حينها أن السؤال هو جوهر فطرتنا الأولى.
أن نَسأل…
أن نَبحث…
أن نرفض القبول الأعمى.
ولولا طرح السؤال، ما خرج الإنسان الأول من بدائيته، ولا انتقل من مطاردة الفرائس إلى سبر أغوار هذا الكون، ولا شهدنا هذا التقدم العلمي المذهل الذي يضعنا يوميًا أمام حقائق تتجاوز قدرتنا على التصديق.
لذلك، ومع بداية هذا العام، لا أبحث عن يقينٍ جديد، بقدر ما أفسح المجال للوعي.
أسمح لعقلي أن يتحرر.
أسمح لقلبي وروحي ونفسي أن ينفذوا إلى أعمق نقطة في ذاتي.
أسمح لنفسي… أن تتوحد معي.
