أزمة العقل العربي

رانيا ضيف
التاريخ يقيم الأمم وفقا لما تركوه من علم وموروث حضاري وإنساني لا حسب إيمانهم وأخلاقهم،
والله لا يحابي الجهلاء ولا يرفع ويعز أمة إلا بعملها وبمدى تطبيقها لنواميسه في كونه،
فالجلوس على أطلال الماضي واستحضار فخرنا بما تركه بعض علمائنا كأسس معرفية ومباديء للعلوم مثل ابن سينا وجابر ابن حيان وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم منذ قرون عدة تلاشى أثرها الآن هو نهج العاجز المتقاعس عن آداء واجبه.
لماذا غاب العرب عن المشهد العلمي العالمي؟ حتى الأسماء القليلة التي أحدثت تقدما ملموسا ومساهمة فعالة درسوا في الخارج واختلطوا بثقافات مختلفة ورفعوا اسمهم هناك!
مثل د. أحمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب
ودكتور طه حسين وغيرهم.
لماذا لم نقدم نماذج تساهم في تشكيل الفكر الإنساني بشكلٍ عام؟ فالحضارة الغربية قامت على العلم والحضارة اليونانية اعتمدت على الفلسفة فهل لنا حضور في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة الآن؟
تُرى هل ساهم في تراجعنا الاعتقاد بأن دراسة الفقه والعلوم الشرعية هي أفضل العلوم وأعظمها وأحبها إلى الله بينما العلوم الدنيوية التي تحتاجها الأمة هي من فروض الكفاية؟
وهل أخلفت دراسة الفقه والعلوم الشرعية منهجية فكرية حجبت العقل عن إنتاج المعرفة؟
أكانت مشكلتنا تقديم النقل على العقل؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها في سبيل البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت لتراجعنا العلمي وعجز العقل العربي عن إنتاج المعرفة فنحن مستهلكون لا منتجون.
أثناء بحثي استوقفتني مقولة للدكتور طه حسين عميد الأدب العربي -الذي أثار الجدل بفكره ومواقفه إلى يومنا هذا وكان أول من تناول الحضارة من وجهة نظر نقدية وكتابه الأهم “مستقبل الثقافة” والجدير بالذكر أن كل من تناول هذا المبحث استفاد مما كتبه طه حسين-
حيث قال: “أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء فيالحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب“
فهل اقتفينا أثرهم وسلكنا طريقهم فكانت الهوة سحيقة بيننا وبينهم فاستمر تقدمنا غير ملموسًا ؟
تلك الأسئلة وأكثر شغلت بعض المثقفين والمفكرين ومن أبرز الذين تناولوا الفكرة دراسة واجتهادا الدكتور محمد شحرور والذي أرجع أزمة العقل العربي لمنهجية تفكيره، فرأي أن العقل العربي عقل ترادفي -وهو نهج غير دقيق وغير مناسب للتفكير العلمي بينما لا يعيب الشعر الترادف أو الكذب أو الخيال- وعقل قياسي يحتاج لنسخة كي يقيس عليها لذلك هو غير قادر على الابتكار.
كما أن العقل الجمعي العربي اعتاد السؤال عما هو مسموح بدلا من السؤال عما هو ممنوع، فبالنسبة له كل شيء ممنوع وحرام حتى يثبت العكس بينما يفترض أن الأصل في الأمور الإباحة إلا ما حُرم بنص ديني أو قانون.
فبدلا من أن يسأل العربي عن كيفية اختراع الموبايل فإن أول ما يخطر بباله هل استخدام الموبايل حرام أم حلال؟ وهذا المبدأ كرس عقلا مستكينا مستهلكًا لا منتجا.
فأصبح العلم تلقينا دون نقاش، يعتمد على الشكل دون المضمون وخَرجت الجامعات ملايين الخريجين ولم تهتم بتخريج مخترعا، كما أصبح مصطلح العلماء يُطلق على رجال الدين ولا يعني علماء الطب والذرة والفيزياء!
في سياق نقد العقل العربي كان للدكتور محمد عابد الجابري المفكر والفيلسوف المغربي مشروع تضمن ٤ كتب
١- تكوين العقل العربي
٢- بنية العقل العربي
٣- العقل السياسي
٤- العقل الأخلاقي
من بعض العناصر الهامة لرباعيته :
١-أن سبب تراجعنا وتقدم الغرب هو العقل العربي الذي تكون خلال عصر التدوين”.
٢- العقل العربي تكون وفق ٣ أنظمة معرفية وهم؛ البيان والعرفان والبرهان.
البيان مرتبط بالعلوم النصية والعرفان مرتبط بالعلوم الباطنية والسحرية والبرهان بالمنطق والعقلانية.
وعندما انتصر البيان والعرفان على البرهان تراجع العقل العربي.
وأن التقدم لا يعني رفض التراث كليا فلدينا في التراث ما يكفي للتقدم ولكن العقل العربي القادر على صناعة التقدم حاليا هو العقل المغربي لاعتماده على البرهان.
أما العقل السياسي العربي فتحكمه ٣ عناصر أساسية هي القبيلة والغنيمة والعقيدة
ولا يمكن تغيير العرب إلا عبر تحويل القبيلة لتنظيمات مدنية والغنيمة لاقتصاد إنتاجي والعقيدة إلى رأي.
والحقيقة أن مشروع الجابري لاقى حفاوة من بعض المفكرين كما لاقى استهجان مفكرين ومثقفين آخرين مثل چورچ الطرابيشي والذي أطرى على الجابري وانبهر بما طرح ثم اكتشف مغالطات كثيرة ذكرها في سلسلة من الكتب على مدار ٢٥ عاما.
والخلاصة أن كل عقل محكوم بفضائه الثقافي والمعرفي وكل عقل يستند لهذه المرجعية وبناء على ذلك يتفاعل مع الحياة والواقع.
ورغبةً في الوقوف على أهم الأسباب التي أدت لعجزنا عن ملاحقة ركب العلم والتقدم الآن، وجهت السؤال ذاته لقامات الفكر والثقافة والأدب والذين بدورهم أمدونا برؤاهم وتصوراتهم فكان رأي د. عصام الخواجة استشاري الطب النفسي وأستاذ الطب النفسي بجامعة رايت ستيت بمدينة دايتون بولاية أوهايو الأمريكية والمدير الطبي لمركز “تي سي إن” للصحة النفسية.
“هناك أمور كثيرة تعوق العقل والفكر العربي ولن نتقدم إلا بالتخلص منها وهذا لن يحدث إلا بتغييرطريقة تربية وتعليم أولادنا منذ الصغر ولابد من التخلص من الفكر السحري الخرافي والانتقال إلى الفكرالنقدي المنطقي العقلاني القائم على الدليل والمنهج العلمي في كل مجالات الحياة.. ومما يعوق العقلالعربي هذه الأمور الخمسة المتغلغلة فيه:
١–إيمانه الشديد بنظريات المؤامرة كسبب رئيسي لتخلفه.
٢–إيمانه الشديد بالمعجزات وخوارق العادات كحل لمشاكله.
٣–اعتقاده أن الله سينصره لمجرد كونه رجلًا طيبًا تقيًا صالحًا.
٤–حنينه الشديد للماضي والتصاقه به وخوفه من الجديد مما يعوق قدرته على التطور والتجديد.
٥–الحَرفية في فهم الأشياء وعدم القدرة على استخلاص المعاني الأعمق للأمور مما يعوقه عن تخليقأفكار جديدة.
فيما رأي الكاتب القدير والقاص الأستاذ/ إبراهيم الديب القضية بمنظوره الأدبي والثقافي حيث قال:
“أعتقد أن سبب عدم الإبداع الفكري من مفكرينا أن الثقافة العربية في الأساس ثقافة تابعة للمركزالأوروبي المهيمنة منذ عصر النهضة الأوروبية ،فما إن يظهر مصطلح فكري أو مذهب فلسفي أو نظريةهناك إلا وندور في فلكها، يتبناها مفكرينا شرحا وتحليلا ثم نأخذ في المقارنة بين هذه المذاهب الغربيةوثقافتنا العربية الإسلامية ونحاول قدر الإمكان إبراز جوانب المشترك الحضاري بين ثقافتنا ومذاهبالفكر الغربي وكأننا نبحث بذلك عن مبرر لوجود ثقافتنا بهذا المشترك الحضاري الذي يجمعنا فنحن فيهذه الحالة رد فعل على إبداع الغرب في شتي فروع المعرفة الإنسانية من سياسة واقتصاد وفلسفةوعلم نفس وأدب ونقد.
ثم يتبنى من مفكرينا من يناسب ميوله النفسية وقدراته العقلية من هذه المذاهب والأفكار يروج لهاداخل ثقافتنا، وكأنها من ابتكاره وهو لا يدري أنه يعمل بالوكالة للترويج للثقافة الغربية ليتعصب كلمفكر للمذهب أو نظرية البحث التي يتبناها، وأحيانا يحدث وأن الغرب يتجاوز هذه النظرية أو يتخطىهذه المذاهب الفلسفية والنقدية ونحن لا نشعر بذلك، ويظل الخلاف قائمًا بين مفكرينا كل منا يريد أنينتصر لمذهبه ثم يكتشفون بطريقة أو أخرى بهذا التجاوز فيعيدون الكرة مما استجد هناك في الغربمن مذاهب فكرية وفلسفية ونقدية وسياسية، ثم يبدأون في الخلاف والتعصب فيما بينهم بشأن الفكرالجديد وهلم جرا، فثقافتنا في هذه الحالة ردة فعل، لا تملك جرأة وشجاعة المبادأة في أن يشيد مذهبفلسفي أو فكري ينطلق من ثقافتنا كما حدث في الماضي مع ابن رشد وابن سينا والكندي في الفلسفةوابن خلدون في فلسفة التاريخ والعلم مثل ابن الهيثم.
بينما كتب الصحفي والكاتب القدير مصطفى زكي مدير تحرير جريدة الجمهورية:
“قد يصادف تعميم الأفكار ـ في كثير من الأحيان ـ بعض الإجحاف غير المتعمد الذي لا ينفي حُسن النواياونُبل الغايات.. فإذا أردنا أن يتسم الطرح بقدرٍ كافٍ من الموضوعية يتناسب مع أهميته، فعلينا حينئذ أننفصل بين جانبين متشابكين ومتقاطعين مع إقرارنا بالارتباط الوثيق بينهما.
فعلى مستوى الجماعة أرى أن هناك أسبابًا عديدة لما يمكن أن نصفه بأزمة العقل الجمعي العربي،وكونه صار عاجزًا إلى حد بعيد عن إنتاج المعرفة بمفهومها الواسع وألوانها المتعددة خلال السنواتالأخيرة، ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك التراجع الواضح ـ وإن كان مازال محفوفًا ببعض المحاولاتفي إطاره النسبي ـ تلك الرِّدة التي تبدو متعمدة في مستوى الوعي العام، إضافة إلى تجذر الفكر المتشدد في تلك المنطقة التي لن تفلح في مواجهتها محاولات التسطيح التي تخاطب فئة معينة دون غيرها قدتجد ملاذها في تطرف من نوع آخر.. تطرف غير واعٍ يتضاد مع الجذور الأصيلة للمعرفة ويتمرد قبل أنيدرك.
ولا أستطيع ـ قطعًا ـ تجاهل الدور الكبير الذي لعبه ذلك الضجيج المحاصر أسماعنا والأبصار في وسائلالتواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المتعددة وعلى أغلب الشاشات في صورة انحدار كبير في كل أشكالالفنون وما زاد عليه اليوم من “حملات التضئيل” في جهةٍ، و“حفلات التبجيل” في جهةٍ موازيةٍ علىالشاطئ المقابل، وهو ما يشارك بدوره في صنع العقل العاجز، أو لِنقُل: في حجب مصادر المعرفةالأصيلة عقول غير راغبة في إنتاجها، بل ومطاردة محاولات انتهاجها.
أما على الجانب الآخر وعلى مستوى الفردي، فأجد في إغفال العديد من المحاولات الجادة لإنتاجالمعرفة، نوعًا من أنواع جلد الذات الذي يهدر أفكارًا وأطروحات عديدة مهمة، لكنها يقينًا تتشابك معالمناخ العام وتتأثر به، إلا أنها تبقى جديرة بالانتباه والدعم والالتفاف حولها في مواجهة موجات التجهيلوتغييب الوعي المتلاحقة بإصرار عجيب.”
وبتوجيه السؤال للدكتور صالح الجرمي ” دكتوراة في علم النفس التربوي ومدرب مستشار تربوي بقصر سمو الشيخ محمد بن خالد آل نهيان” كانت رؤيته الآتي:
“مما لا شك فيه أن المعرفة بشتى صنوفها هي نتاج اطلاع، ووليدة تحليل وإعمال للفكر والذي بدورهيقود الإنسان في النهاية لجني ثمرة الوصول لدرجة الوعي، وهو الذي يمكنه من التعاطي مع مجرياتالأحداث من حوله في كافة مجالات وآفاق الحياة التي يحياها.. ولما كانت تلك المعرفة في زمننا الحاضرقد افتقدت أكثر تلك المقومات التي ترتكز عليها ـ وذلك لأسباب شتى ـ والتي كان يؤمَّل منها دومًا أنتكون الجذوة التي تحرك العقول وتحفزها على الارتقاء بتلك المعارف لصناعة مستقبلاً وتاريخًا خلاقًا،فلا غرابة إذن أن نلمس ذلك الحجم الكبير من الاضمحلال الذي أصاب ذلك العقل العربي والذي أُريد لهعنوة أن يكون على هذا الحال من التخلف والضعف وسط الكثير من المؤثرات التي لعبت دورًا هامًاومفصليًا في قتل روح الارتقاء بتلك المعارف، ومن أهم تلك المؤثرات هو ضعف الدور الإعلامي في الوطنالعربي والذي يعتبر بمثابة رمانة ميزان لبث روح الوعي لدى المثقف العربي، وبالتالي النهوض بذلكالعقل وإيقاظه من دهاليز جهله الذي تاه بين أزقتها، إضافة إلى تراجع دور المؤسسات التعليمية منحيث نوعية المناهج ونمط التعليم السائد، هذا علاوة على بعض الأسباب التي ربما لعبت دورًا ليسبالدور الهين كتفشي المشكلات الاجتماعية على مختلف ألوانها وأشكالها وسواد الركود الاقتصادي الذيأثخن في الإنسان العربي وجعله يلهث وراء لقمة عيشه من أجل أن يُمضي يومه دون الانشغال بأمرالارتقاء وصناعة مستقبل أمته .. وهكذا فترت الإرادة، واندثرت المعارف، وتلاشى الطموح وبالتالي وقعذلك العقل في وحل تلك الأزمات التي عملت على جموده وعجزه عن إنتاج المعارف والابتكاراتوالإبداعات بشتى أنواعها.”
بينما رأت الدكتورة دعاء راجح الباحثة في العلوم النفسية ومستشار العلاقات:” أن أزمة العقل العربي تكمن في أنه عاش سجينًا، سجين ديكتاتوريات تتابعت عليه على مر القرون فالتسلط و التحكم مخيف، والخائف غير الآمن من الصعب أن يفكر ويبدع.
و الديكتاتورية ترفع من شأن الأتباع والمطيعين ومن شأن المهرجين التافهين و تجعلهم يتصدرون المشهد وقد تستبعد المبدعين.
كما أن العقل العربي سجين لفهم مشوه للدين يدعوه إلى إغلاق العقل على ما هو معروف ومتوارث عبرالأجيال، واستحضار التراث الديني لمواجهة أي اجتهادات جديدة تتوافق مع التغيرات المجتمعية.
هو سجين لأعراف مجتمعية تجعل أى خروج عن المألوف في الفكر والثقافة والتراث مرفوضا، ويحارب بشدة والاتهامات جاهزة ومعدة مسبقا !
العقل العربي لا يشعر بالأمان المادي ولا المعنوي فهو يلهث وراء لقمة العيش، وظل الحيطة فلا وقتلديه للمعرفة والعلم والإبداع.
الإبداع قرين الحرية، فالعقل المبدع عقل حر
والإبداع في بلادنا مرفوض على كل المستويات السلطوية والشعبوية.”
فيما أدلى برأيه الفنان التشكيلي والكاتب الصحفي القدير والناقد السينمائي سيد هويدي قائلا: “غرقالعقل العربي في الخرافة، ووضع حدودا قسرية للتفكير، تنتحر في كهوف الغيبيات، مجافيا العلم الذييلجأ إلى مناهج التفكير العلمي كأسلوب حياة.
عدد الرقباء الذين يمنعون العقل من التفكير الحر والتعبير يتزايد يوميا، أول هؤلاء الرقباء المعتقد الدينيالذي يحيل نتائج الأعمال إلى فضاء غيبي، أما الرقيب الثاني هو السلطات المختصة التي في غالب جزءكبير من تكوينها يعتمد علي المكون الأساسي في شخصية المواطنين هو المعتقد الخرافي، بالإضافة إلى طرق وأساليب الاستبداد القاهرة، التي تدفن رقباء علي الحرية في عمق أفراد المجتمع.
إذًا تحديات وجود المعرفة، عقل خرافي، وغياب مناهج التفكير العلمي، وقهر حرية التفكير والتعبير منحياتنا، وعدم الولوج عصر الصناعة بمفاهيمها من تقسيم العمل والحرية الفردية وإعمال العقل وتقديرقيمة الوقت، والخروج من سذاجة عصر الزراعة، لصالح التفكير المجرد من الأوهام والعصبية.”
بينما كان رأي الكاتب القدير والقاص المبدع ومؤسس منصة عالم موازٍ أحمد فؤاد الآتي:”
رُبما يعجز العقل العربي المُعاصر في إنتاج المعرفة، لكن لا يمكننا تجاهل حقيقة أن المعرفة ذاتها فيزمننا المُعاصر قد تشوّه معناها.
المعرفة في عصرنا تحوّلت إلى معرفة استهلاكية مادية، تُركز بشكل أساسي على كيفية استقطاب أكبرقدر من المال أو الشهرة. وذلك مع الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي والتي روجّت لهذا النوعمن المعرفة.
أيضًا لم يعد الفرد راغبًا في المعرفة الثقافية وذلك بعد الاتكال العظيم على مُحركات البحث علىالانترنت والتي تأتي بالمعلومة في ثوانٍ، ولم يعد هناك داعٍ للحرص على التزود بها إلا عند الحاجة إليها. وهذا أدى إلى نوع من السطحية الثقافية للفرد في المجتمع، والذي أدى بالتبعية إلى فقر شديد فياستحداث تحليلات اجتماعية ثقافية وحلول مُبتكرة تنبع من اجتهادات مُخلصة، وربما تحرص بعضالأنظمة السياسية على إشاعة هذه السطحية لسهولة توجيه المجتمعات والتأثير عليها، نظرًا لصعوبةقيادة الأفراد ذات الوعي الثقافي العالي.
أخيرًا وكشريك ضليع في المأساة أصبحت المعرفة الثقافية الأكاديمية ضحلة ومُتكرّرة في أبحاثهاومُخرجاتها. فصارت تُفرّغ المعرفة من معناها، وتُسطّح عقول طُلاب المعرفة.”
أما الشيخ نشأت زارع كبير أئمة بوزارة الأوقاف بالدقهلية فكانت رؤيته تتلخص في :
“من سرق مالك فقد ظلمك ولكن من سرق عقلك فقد قتلك، وإذا أصيب القوم فى أفكارهم وعقولهمفأقم عليهم مأتما وعويلا.
إن سرقة وتجريف العقول هى المصيبة والكارثة الكبرى التى تصيب أي أمة، فالأمم تقاس حضارتها بماتركت من علم وما تركت من فكر ينفعها وينفع البشرية، والتخلف الحضاري نتيجة تخلف فكري والتقدملن يأتي إلا بإعمال العقل وفقه الأسباب واحترام وتقديس العلم.
وأي أمة تقدمها مرهون بعقول أبنائها، فإذا كانت أفكارهم وعقولهم سليمة، فهنيئًا لهذه الأمة التقدم، وإذا كانت عقولهم مازالت تعلق شماعات الفشل على الميتافيزيقيا وأصل فلان مسحور وفلان محسودوفلان معيون وفلان ملبوس وهلاوس عصر أبقراط فالعوض على الله في هذه الأمة.
الأمم التي تريد نهضة بلادها أول ما تهتم؛ تهتم ببناء العقول والأفكار، لأن أعظم ثروة لأمة أن تكونأفكار شعوبها وعقولهم سليمة من العلل والمرض فكما يمرض الجسد يمرض العقل ومرض العقل هوالأخطر أو لا يقل خطورة عن مرض الجسد، وهي معركة ليست سهلة أو مضمونة، ولكن لأن تنقل جبلا منمكانه أهون من نقل فكر موروث جيلا بعد جيل، إنها مسألة تحتاج سنين طويلة.
اليابان حينما أرادت أن تبني نفسها وضعت لنفسها هدفًا وغاية ولسان حالهم يقول الحل هو العلم ثمالعلم ثم العلم، فبناء العقول السليمة والأفكار الناضجة هو الذي يجعلك تعيش في أمن واستقرارورفاهية، لأنه سوف يجلب لك المال أيضًا .
يقول مهاتير محمد صاحب نهضة ماليزيا: “حينما أردنا أن نصلي توجهت قبلتنا إلى مكة وحينما أردنا أننبني الدولية توجهت قبلتنا إلى اليابان”.
وحينما يصاب الهارديسك في الكمبيوتر بفيروس فإنه يعطل قدرات الجهاز ويكون الجهاز بطيئًا كسولاوهنا لابد من التدخل للعلاج حتى لا يصاب الجهاز بالشلل التام فإن استطعت أن تزيل الفيروس عادالجهاز إلى طبيعته وإلى كفاءته وأحيانًا تضطر للأسوأ باستخدام نسخة جديدة خالية من الفيروسات هذاالمثال نسقطه على الإنسان، فالعقل فى الإنسان يصاب بفيروسات الجهل والخرافة والتخلف، فيصبحالإنسان أسيرا لأفكار بائدة وأحيانًا يعطى عقله إجازة مفتوحة أو يسلمه لغيره يفكر بالنيابة عنه وهو ينفذبلا وعي، هذا الإنسان فى هذه الحالة خطرًا على نفسه وعلى المجتمع بأكمله ويحتاج للعلاج والتدخلالسريع، وهنا يأتي دور المفكرين وأصحاب الرأى والعلم والثقافة والفكر فهم أطباء العقول والأفكارالذين لا تقل أهميتهم شيئًا عن أطباء الجسد بل هم أسباب نهضة الشعوب والحضارات .
وأخيرا؛ إنقاذ العقل هو الحل“.
أما عن رؤية الشيخ أسامة إبراهيم إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية فكانت:” العقل الإنساني قوةٌبشرية تُوضع في مقابل الانفعال أو العاطفة، وهي كذلك قوة مضادة للسلطة بشتَّى مظاهرها، تسعى إلىالتخلص من كل آثار التفكير الأسطوري، ويكفي أن نشير إلى أن العقل يعاني أزمةً في كل حالةٍ يسعى فيهاالإنسان إلى الدفاع عن إحدى هذه القوى المضادة وتغليبها عليه. أزمة العقل العربي تتلخص حولالتشبث بالماضي، الإنسان العربي بشكل عام يبكي على الأطلال، يعيش دائما على الذكريات – نوستالچياالماضي –، متعلق بكل ما هو قديم حتى في التراث الديني؛ ففي العهود الأولى للمجتمع الإسلامي قررالساسة المسيطرين على مقاليد الأمور روحيًّا أو سياسيًّا نبذ الفلسفة على أساس أنها غريبةٌ أو دخيلة، مادامت يونانيةَ الأصل، وكان من المحتَّم أن يؤدي نبذُ الفلسفة هذا إلى نبذٍ للعقل ذاته، فضلا عن إخماد التفكير العقلي الاستنتاجي في تفسير النص لفرقة المعتزلة، والذي ظل عقودا ممتدة مثمرًا في المجتمعالإسلامي والعربي إلا أن السلطة السياسية للمتوكل العباسي أطفأت هذا التوهج الفكري وانتصرتلحروفية النص خدمةً لأغراض سياسية بحتة. وللأسف ما زال العقل المسلم بشكل عام، والعربي بشكلخاص متشبثاً بآراء المفسرين والفقهاء القدامى، حتى المتلقي العادي من الجمهور، على سبيل المثال إذالم يذكر الخطيبُ أو الواعظ في استشهاداته: ابن تيمية أو ابن فلان وعلان في مواعظه؛ فيعتبروا ذلكقصورا منه أو قلة ثقافة فيه أو إنه ليس قويا في العرض والإقناع، هذا حال الملقي والمتلقي للمعرفةعلى حد سواء،
مع أنه من البديهي أن هؤلاء الناس خدموا مجتمعهم بمفردات وثقافة عصرهم الذي عاشوا فيه؛ بينمانحن مازلنا متشبثين بالماضي ولم نخطو بعدُ أي خطوات نحو المستقبل، إلا ما ندر، وكلها جهود فرديةتضيع وسط زحام الغوغائية وسطوة الانفعالات العاطفية؛ بينما الحداثيون اتخذوا خطوات واسعة بعيداعنا؛ لذلك نحتاج لتطوير في كل كبيرة وصغيرة، تطوير في المناهج والمحتوى الذي يُقدم للطلبة وطرقالتدريس كي نخلق مبدعًا فيما بعد، قادرًا على الإبداع وإنتاج الجديد.
التقييم نفسه للطلبة تقييم بدائي، لا أعتقد أنه معتمد في أي جامعة معتمدة في العالم؛ فالأستاذالجامعي في الشرق يدرس المادة وقبيل شهر من الامتحانات يذاكر الطلبة من مذكرة يحفظوها ليلاونهارا ثم يفرغوها في ورقات الإجابة!
أين البحث العلمي والمعرفة والعلوم التي تعتمد على بحث الطالب نفسه أين شغله ومجهوده وأفكاره؟!
من المفترض أن يكون عمل المدرس أو المعلم ما هو إلا إرشاد وتوجيه ووضع الخطوط العريضةللباحثين ومتابعتها وتقييمها..
الخلاصة لابد أن يكون عندنا رؤية للمستقبل:
طرق تدريس حديثة ومناهج قوية والاهتمام بالبحث العلمي واحتكاك الطلبة بثقافات متنوعة، إننا فيعصر العلم، ولابد من الاهتمام بإرسال البعثات العلمية للخارج في الدول المتقدمة علميا، والزامالمبعوثين بالرجوع والعمل في بلادهم براتب مجزٍ؛ لينقلوا ما تعلموه، بشكل أو بآخر، عملا بما جاء فيالقرآن الكريم
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّاللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة الحجرات:13]
يحدث احتكاك وتبادل معرفة بين الطلبة العرب وغير العرب من الدول المختلفة، يتعرف أولادنا علىثقافات الناس ويتعلموا لغات جديدة، أي يكون هناك تطوير وانفتاح على العالم، بينما لو استمر تقوقعناعلى أنفسنا بالطرق التقليدية القديمة والعقيمة لن يكون هناك جديدا، وسيزداد البون بيننا وبين الغرببسنين ضوئية…
وبالمناسبة عندنا خامات جيدة جدا وعقول ممتازة وعندهم استعداد للتعلم ونستطيع خلق عباقرةمنهم لو وعينا لدور التعليم وتطوير مناهج التدريس والمحتوى والتقييم وطورنا من قدرات ودورالمدرس والأستاذ الجامعي.”
في ختام هذا التحقيق الهام والثري بآراء أهل الثقافة والأدب والفن والعلم والذين أجزلوا لنا العطاء بجمال أطروحاتهم ورؤاهم من منظور نفسي وديني وأدبي وثقافي وعلمي نكون قد وقفنا على معظم الأسباب التي أدت لغياب العرب عن المشهد العلمي العالمي.