كافكا… حين صار الحزن وطنًا لا يُغادر

كتبت/سالي جابر
لم يكن كافكا يكتب القصص، بل كان يكتب من فجوةٍ داخله لا تُردم، من حزنٍ مقيمٍ في أركان نفسه، لا يهدأ ولا يتعب.
هو ذلك الكاتب الذي تكتبك كتبه، وتشرحك قبل أن تفهم نفسك.
لم يكن الحزن في حياته طارئًا، بل كان رفيقه القديم، يسير معه كظله، لا يُفلت يده.
في رسائله، كما في رواياته، في كلماته القصيرة كما في حكاياته الطويلة، نلمح رجلًا يحيا على حافة الانهيار، تتآكله الأسئلة، ويثقل عليه الوجود ذاته.
جذور الحزن: حين لا تجد نفسك إلا في الخوف
ولد كافكا في بيئة لم تُشبهه، كان أبوه شخصية قاسية، صارمة، تُشعر الطفل دومًا أنه غير كافٍ، غير مرغوب، غير مفهوم.
وهذا ما زرع في داخله نوعًا من الخوف الوجودي، خوفٌ من الناس، من الحب، من الحياة، من الاختيار.
كتب ذات مرة في رسالة إلى والده:
“كنتُ أخافك حتى وأنا أُحبك… لم أجرؤ أن أكون أنا في وجودك.”
هذا الخوف لم يكن سطحيًا، بل تسلل إلى لبّ روحه، وجعل الحزن عنده ليس ردّ فعل على الحياة، بل شكلًا من أشكال الحياة نفسها.
الأدب كصرخة مكبوتة: كيف كتب كافكا الحزن؟
أبطال كافكا ليسوا أبطالًا… بل كائنات هشّة، ضائعة، تنهار ببطء في صمت.
في رواية التحوّل (المسخ)، يستيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة، دون تفسير، دون منطق، دون أن يتساءل حتى لماذا!
“استيقظ ذات صباح من أحلام مزعجة، ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة ضخمة.” (المسخ)
كأن الإنسان، في عالم كافكا، لا يملك حقّ السؤال، ولا حتى حقّ الرفض.
هو موجود فقط ليُعاني، بصمت، وسط عالمٍ لا يفهمه ولا يعترف به.
في رواية المحاكمة، يُعتقل جوزيف ك. دون أن يعرف التهمة.
وتظل حياته تدور في متاهة قانونية عبثية، بلا باب، ولا نهاية.
“شخص ما لا بد أن يكون قد افترى على جوزيف ك.، لأنه اعتُقل ذات صباح دون أن يكون قد فعل شيئًا خاطئًا.” (المحاكمة)
هكذا يرى كافكا العالم: مكانًا تُحاسَب فيه دون سبب، وتُعاقَب دون تهمة، وتُسحق دون أن تُفهم.
الحزن في رسائله: من يكتب من أجل أن يُسامَح؟
في رسائله إلى فيليسه، لا يكتب كافكا رسائل حب، بل اعترافات من قلبٍ مريض بالخوف.
هو لا يعدها بالسعادة، بل يحذرها من قسوته، من عزلته، من هشاشته.
“أنا لستُ جديرًا بكِ، حياتي موحشة، مَرَضي داخلي لا يُشفى، لا تستحقي أن تكوني زوجة ظلّ.”
هذا الحزن العميق، جعله يهرب حتى من الحب، لأنه كان يرى نفسه كائنًا غير قابل للنجاة.
حين يقرأك القارئ كما لو كأنك هو:
لم يكن كافكا يكتب عن نفسه فقط، بل عن ذلك الإنسان المُنهَك، المُتعب من فكرة الحياة نفسها.
حين تقرأه، لا تحتاج أن تفهم كل شيء، فقط تشعر أن هناك من قال بصمتٍ ما ظللتَ تكتمه طويلاً.
إن كافكا لا يواسيك، لا يعدك بشيء، لكنه يمنحك اعترافًا ثمينًا: “لستَ وحدك في غربتك”.
ومن الغريب أن هذا يكفي أحيانًا لتُكمِل العيش.
اقتباسات كافكوية… حزنٌ يُهمِس ولا يصرخ:
1- “أنا حر، ولهذا أنا ضائع.” (دفاتر يومية)
الحرية عند كافكا لا تُطمئن، بل تَزيد الغربة.
كأن العالم، حين لا يُقيدك، يُفلتك لتتوه إلى الأبد.
2- “أكتب لأنني لا أستطيع التحدث.” (رسائل)
الحزن عنده لا يجد صوتًا، لكنه يجد يدًا تكتب.
كل نص عنده صرخة غير منطوقة.
3- “الحب هو أنك تسكن في قلب شخص لا تستطيع أن تسكن عالمه.” (رسائل إلى ميلينا)
هكذا يصف الحب، لا كاتحاد، بل كحزنٍ مضاعف.
كأن الحب عنده هو الغربة المشتركة.
4-“في صميم كل إنسان، شيء لا يمكن الوصول إليه.” (يوميات)
الحزن عند كافكا ليس في الأحداث، بل في الجوهر.
لماذا نقرأ كافكا؟
لأننا في عالمٍ يعجّ بالضجيج، نحتاج إلى من يكتب الصمت، والخوف، واللاجدوى، بصوتٍ يشبهنا.
لأن هناك ألمًا لا يهدأ إلا حين نقرأ من كتبه قبلك… وعاشه قبلك… وسقط فيه قبلك.
نقرأ كافكا، لأننا حين نفقد اللغة، نبحث عن من كتبنا دون أن يعرفنا