ديني

التصوف بين الغلو والاعتدال، والإنصاف والإجحاف

د. فرج العادلي

بداية وبشكلٍ مبسطٍ أبدأ بتعريف التصوف، فقد جاء في كتب اللغة:« إن التصوف هو طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلي بالفضائل، لتَزْكُوَ النفسُ وتسموَ الروح»

إذن التصوف هو نوعٌ من التصفية، والتصفية تكون بتطهير القلب من الأمراض الخطيرة التي تعْلَق بها من حب للدنيا، وتَعَلُّقٍ بها، ومنافسة عنيفة وشرسة عليها، وعند فواتها أو نضب نبعها الجاري نجزع ونحزن، وفي سبيلها نتملق، ونخدع، ونحابي، ونرائي، ونكذب، وربما نسرق، ونرتشي ونرتكب الموبقات أحيانًا… وهذه أمراض خطيرة مدمرة إذا لقي العبدُ بها ربه سبحانه وتعالى كان من الخاسرين، لأن الله تعالى يقول: « يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » إذن العمل على سلامة القلب أمرٌ واجبٌ على كل مسلم، وكما جاء عن أمير المؤمنين ابن حجر العسقلاني-رحمه الله تعالى-:« إن دواء القلب- من أمراضه- واجب، ودواء البدن مستحب» وأقول إلا إذا كان مرض البدن موجب للهلاك وقد وجد الدواء فساعتها يجب التداوي.

لذا كان من الضروري أن يسلك بعض الناس طريق التصوف والتخلي عن الدنيا بملذاتها وشهواتها ويؤثر الآخرة عليها؛ لأنها خير وأبقى. وهذا أولًا

ثانيًا: مراحل التصوف، وتطوره.

المرحلة الأولى: كانت منذ عصر الصحابة الكرام-رضوان الله عليهم أجمعين-، ولكن لم يظهر ذلك جليا وواضحا، لأن الصحابة رضوان الله عليهم أصحاب قلوب مختارة، ومن المستحيل أن يُجد قلب يحمل من هذه الأمراض مرضا واحدًا؛ لأنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الرؤية تحدث نورا في القلب، كما جاء في الحديث الشريف
( يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيَقولونَ: فِيكُمْ مَن صاحَبَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ، ثُمَّ يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيُقالُ: هلْ فِيكُمْ مَن صاحَبَ أصْحابَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ، ثُمَّ يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيُقالُ: هلْ فِيكُمْ مَن صاحَبَ مَن صاحَبَ أصْحابَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ)

فهذا النور له أثره العظيم في القلوب والنفوس بلا شك، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون الوحي الشريف ولا يحتاجون إلى شرحٍ أو توضيح من أثر أنوار النبوة ومصافحة وجه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم

فكانوا جميعا قلوبهم صافية من كل هذه الأمراض كما سلف، وإن لم يظهر ذلك في ثيابهم، وزيهم فكانوا متصوفة باطنا لا ظاهرا وظاهرهم وباطنهم سواء في النقاء، ولكن لم يكن ذلك مانعا من أن تظهر أمرات التصوف الظاهرية على بعض الصحابة الكرام كسيدنا أبي ذر-رضي الله تعالى عنه-، وكذلك من التابعين سيدنا أويسٍ القرني-رحمه الله تعالى- وغيرهما كثير،
وإلى هنا وما بعده بزمن لم يكن التصوف (باختصار) سوى الزهد في الدنيا، والإقبال على الله، والتعلق بالآخرة، والعمل على سلامة القلب، لأن من زهد الدنيا نجا من كل ما قد يقع فيه الإنسان من أمراض كما سبق، ولم يكن عندهم سوى الكتاب والسنة النبوية وآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- منهجا ومتمسكا وطريقا.

المرحلة الثانية:

بعد أن بَعُدَ نورُ سيدِنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عن الناس ( أقصد النور المحسوس، نور الصحبة وبركتها، وبعد أن بَعُدَ الناسُ عن القرون الفاضلة) احتاج بعضُ الناس إلى إضافات تعينهم على طهارة القلب وتزكية النفس، من أمراضها، فجربوا أشياء معينة وأضافوها إلى عبادتهم، وتوارثوها أحيانا، ولكن لم ينسبوها إلى الكتاب والسنة قط، ولم ينسبوها إلى الشرع الشريف أبدًا، بل نسبوها إلى الطب، طب القلوب التجريبي البحت، غير أن له أصلا في الشرع، وقالوا صراحة هذا جربناه فأفادنا، فإذا أحببت أن تجربه فافعل، ولكن لا نضمن لك النتيجة، وهذا أيضا لا إشكال فيه إطلاقا لمن أنصف واتقى ربه جل وعلا، وكان الإمام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- له مجربات معروفة كدعاء « حابس حابس حجر يابس…» وقد ألف الإمام ابن القيم-رحمه الله- كتاب مدارج السالكين في بيان كثير من هذه الأمور.

وهناك من لم يضف شيئا للكتاب والسنة، واكتفى بالأصلين وتوارث بعض الناس ذلك إلى يوم الناس هذا، فالأمر في دائرة المباح، ولا يجوز الإنكار، لأن الاجتهاد لا يِنقض بالاجتهاد لمن كان عنده أدنى إلمام بقواعد أصول الفقه.

المرحلة الثالثة:

وهي مرحلة اختلاط الحابل بالنابل كما يقال، فدخل في التصوف أناسٌ لأغراضٍ شتى، فمنهم من دخل للتزكية حقا، ومنهم من دخل كمندسٍ لتشويه هذا المشرب الكريم والمنهل العظيم، ومنهم من دخل للانتفاع الدنيوي ولأكل الدنيا بالدين، ودخل فيه الصادق والكاذب والعالم والجاهل إلى آخره، كما هو شأن كل المذاهب والمناهج، بل الديانات أيضا.

ويجب أن يكون الإنسان منصفا حتى مع أعدائه فضلا عن أهل دينه، لأنه سيقف بين يدي ربه عز وجل، فلا يأخذ تصرف مندسٍ أو منتفعٍ أو جاهلٍ فينسبه للمنهج أو للمدرسة كلها ويطير مشنعا عليهم جميعا في كل موطنٍ ومكانٍ وزمانٍ، لأنه قد يحكم أو يسيء أو يعادي من بينهم وليًا من أولياء الله وهو لا يدري، وكلنا يحفظ الحديث القدسي ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب…)

فيجب أن يُحْكَم على الخطأ وعلى مرتكبه لا على الكل عالمهم وعابدهم وزاهدهم وفاضلهم من لدن التابعين إلى يوم الناس هذا.!

ثالثا: بعض القضايا الجدلية وموقف التصوف منها

١_ زيارة القبور والأضرحة:

منهج العلماء أن الإنسان يزور القبر، لأن الشرع استحب ذلك، وخص بعض العلماء قبور الأنبياء والأولياء، لأن هذه البقعة التي دفن فيه النبي أو الولي تكون طاهرة، وقبول الدعاء عندها أرجى؛ لأنها روضة من رياض الجنة، وهو ما أكده الإمام الذهبي- رحمه الله تعالى- فليرجع إليه من شاء.
ومنهج هؤلاء العلماء أن الطواف حولها حرام، واعتقاد شخص أن صاحب القبر يضر وينفع من دون الله تعالى شرك، ولا يجوز السجود بحال احتراما أو تعظيما… ومن الظلم أيضا أن نسحب فعل العوام والجهال على العلماء، ولو طلبنا من العلماء ترك ذلك سدا للذريعة لطلبنا منهم ترك الحج، لأن فيه اختلاطا، وفيه شيعة، وفيه غانيات ومنحرفات، ومنحرفين، ويجب أن نمنعهم من اقتناء الهواتف والتلفاز أيضا، لأن العوام يستخدمونه خطأ، وهذا لا يقول به أحد.

هذا وقد أكد العلماء على أن التصوف لا علاقة له بالقبور، وإن أكثر من زار البقيع تقريبا هو سيدنارسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو سنة وليس تصوفا.

٢- كثرة الموالد وما يحدث فيها من مخالفات.

ظهر كثير من العلماء خاصة المعروفين بالتصوف منهم على وسائل عدة، ونبهوا مرارا وتكرارا على أنه لا علاقة ولا رابط بين التصوف والموالد، بل وهاجموا من يقيمون الموالد لكل أحدٍ مات في طريق من الطرُق الصوفية، وكان ذا منصب فيها، وقالوا صراحة: إنهم لا يحتفلون إلا بمولد سيدنا-رسول الله صلى الله عليه وسلم- وسيدنا الحسين وسيدتنا زينب- رضي الله تعالى عنهما- بما لا يخالف سنةرسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

ومن الظلم أن تسحب فعل العوام على العلماء، ومن طلب المستحيل أن تجعلهم يتركون ما يعتقدون أنه محبة لسيدنا رسول الله وآل بيته الأطهار من أجل مخالفة بعض الجهال، فلسان حالهم( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)

٣- الموقف من الكلمات التي تصدر من بعض الصوفية.

هناك كلمات صدرت، وكتب ألفت تُوهمُ الشرك بل الكفر أحيانا-عياذا بالله تعالى_، وهذه الأمور فسرها العلماء بأكثر من تفسير.

فمنهم من قال إن هذه الكلمات تصدر عنهم في حالة سكر، أو جذب شديد، أو مرضٍ، أو سبق لسان، أو ما يشبه اللغز، أو ناقصة المبنى كما كان يقول بعضهم: يا من أراه ولا يراني. فلما أنكروا عليه قال قصدتُ يا من أراه أهلا للعفو ولا يراني أهلا للطاعة. أو شيئا قريبا من هذا، المهم أن هذا تفسير، ولا ينبغي الحكم على ما في قلوبهم بمجرد هذه الكلمات، لأن للحكم طرقا كثيرة معروفة، كالمناقشة، وخلو الإنسان من المرض، أو الجهل، أو…

وذهب البعض الآخر: إلى أن صيانة الدين تقتضي المنع والضرب على أيدي من يتكلم بمثل هذه الكلمات. فهذان مذهبان لأهل التصوف أنفسهم.

والجميع يقرون أن هذه الكلمات لا تجوز، وإنما الخلاف في هل يجوز مؤاخذتهم عليها أم لا، فمن قال أن عقلهم كان غائبا لا يؤاخذهم، ومن نظر إلى أنه ينبغي سد الذرائع قال بالمنع، وأما التكفير فأمر خطير سلكه بعض الناس والعلماء أيضا وهم يتحملونه خاصة أن لم يكونوا كذلك.

٤_ الكتب
هناك كتب مختلف فيها كالاختلاف في الكلمات السابقة، فمن العلماء من قال هي مكتوبة بلغة معينة وإشارات معينة لا يفهمها إلا بعضُ الناس، وقد منع صاحبها نفسه العوامَ بل العلماء من غير هذا المنهج أن ينظر فيها، ووضع منهجه في بدايتها، ومع ذلك اقتحمها البعضُ وأخرجوا ما فيها وشنعوا على أصحابها.

ومن العلماء أيضا من حرم هذه الكتب وحرم النظر فيها، وحكم على أصحابها بالكفر-عياذا بالله-.

وطالما أن التفسيرين موجودين، فلماذا أقحم نفسي في دائرة التكفير، فماذا يكون موقفي أمام الله تعالى إن لم يكن صاحبها كافرا، فقد باء بها أحدهما، كما أخبر الصادق المصدوق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لكن الأسلم من وجهة نظري المتواضعة أن أبتعد وأتجنب وأسكت، أو أن أُحسن الظن على الرأي الأول، وإن كثيرا من القصص والحكايات مكذوبةٌ على أصحابها.

٥- التوسل
والتوسل أمر فقهي وحسب، وهو موجود في كتب الفقه، وليس له علاقة بالتصوف إطلاقا، والمختلف فيه لا إنكار فيه كما قرر أهل العلم وسبق الإشارة إليه، بل إن من أجاز التوسل في أوضح صوره مذهب الحنابلة.

وفي النهاية- إن كان لازال أحد معنا في هذا المقال حتى الآن ولا اظن ذلك لإطالتي فيه- أريد أن أقول: عليك أن تعبد ربك بما تعتقد أن فيه نجاتك، فلم يجبرك أحدٌ على اعتقاد شيء أو فعل شيء لا تدين الله به ولا تطمئن إليه، وهذا ليس فيه خطر إن شاء الله تعالى، إنما الخطر أن تقحم نفسك في نوايا الناس وضمائرهم، وتحكم على قلوبهم وعلى آخرتهم…هذا إذا كنت من العلماء وهو أمر خطير قطعا، فكن في الأسلم.

وأما من هم ليسوا من أهل العلم فإن دخولهم في هذا المعترك لا يجوز بحال، لأنك مقلد والمقلد يتبع وحسب.
وكفانا فرقة فالأعداء على الحدود.
والله أعلم.
يُتبع السلفية بين الإنصاف والإجحاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى