سي السيد بين الكوحيت والأليط – أزمة هوية على مقهى بلدي

السيد عيد
في ركنه المعتاد بمقهى الحاج “عوف”، جلس سي السيد بعد صلاة التراويح في اليوم السادس من رمضان تاركا أمينة بين السوبيا والتمر والياميش وواضعًا ساقًا فوق ساق، محاطًا بهالة من الوقار والسلطة الوهمية، يحتسي الشاي ببطء وكأنه يُدير شؤون الدولة. فجأة، اقتحم المكان شاب يرتدي نظارة شمسية في عز الليل، ملتف حول رقبته كوفيه كأنها قضية أمن قومي، تفوح منه رائحة عطر يمكنها إحياء المومياوات الفرعونية الخامسة.
سي السيد يغمغم لنفسه: يا ساتر، ده شكله ربنا يستر، حيطلب قهوة بلبن اللوز!
يتقدم الشاب، يسحب مقعده بأناقة، يضع هاتفه أمامه كأنه قطعة أثرية ثم يرفع كوب القهوة بزاوية مدروسة، يلتقط صورة، يضيف فلتر باريس 2012، ثم ينشرها على “إنستجرام” مع هاشتاج: مزاجي الرايق قهوة بمفهوم الفن
وكانني اري النخبة المثقفة الليبرالية، التي تتحدث بلغة غربية، تروج لأفكار الحداثة والعولمة، لكنها في بعض الأحيان منفصلة عن الواقع الشعبي، مشغولة بالصورة والشكل أكثر من المضمون. يشبه ذلك بعض الأحزاب والنخب السياسية التي تتبنى خطابًا عصريًا، لكن دون امتداد حقيقي في الشارع.
سي السيد بغيظ مكبوت: بدل ما يشرب القهوة، القهوة هي اللي بتشربه!
لكن قبل أن يفرغ شحنة غضبه، يدخل شخص آخر.. “حمو الكوحيت”، بتريننج رمادي تحول إلى بيچ بفعل عوامل التعرية، وشبشب نصفه في الدنيا ونصفه في دار الحق. يجلس بلا مقدمات، يُسند قدمه على الكرسي المقابل، يضرب بكفه على الطاولة بحماس كأنه يُحيي قبيلة:
الكوحيت بصوت جهوري: شاي يا عبود ، سكر كتير، ونعناع أكتر، وحسابه على الرايق!
وكأنني اري التيارات الشعبية، التي ترفض الحداثة وتتمسك بالماضي، لكنها أيضًا تستغل بساطة الناس وعاطفتهم لتحقيق مكاسب خاصة. إنه يمثل القوى التي تدّعي الدفاع عن الفقراء، لكنها قد تكون الأكثر انتهازية في الواقع.
سي السيد (يضع يده على قلبه): يا نهار مش فايت! واحد عامل القهوة جلسة تصوير، والتاني عامل الشاي مشروع خيري!
يبدأ النقاش بين الكوحيت والأليط، الأول يتكلم بعامية مفرطة “، والثاني يتحدث بلغة نصفها عربي ونصفها “إنترناشيونال بيزنس”.
الكوحيت ساخرًا: “فاكر نفسك في أوروبا؟ يا صاحبي، إحنا لسه بنتخانق مين اللي يحط كيس الزبالة قدام الباب!”
الأليط بفلسفة زائفة: بص، الجودة بتاعت تفاصيل الحياة بتعكس الـ “vibes” اللي أنت بتعيش بيها. ما ينفعش أشرب أي حاجة وخلاص!
الكوحيت ينفث دخان السجائر في الهواء بعد أخذ سيجارة من الأليط: يعني أنت عشان تشرب حاجة لازم تحسسنا أنك في مهرجان “كان السينمائي”؟!
سي السيد بفزع وهو يطرق الطاولة: بس بقى! أنتوا الاتنين جيل ضايع! واحد شايف الحياة فلتر، والتاني شايفها من تحت الشبشب!
وكأننا أمام مشهد يمكن تشبيهه بواقع السياسة المصرية والعربية، حيث نجد أنفسنا عالقين بين تيارات متناقضة، كل منها يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بينما يظل المواطن العادي (سي السيد) محاصرًا في المنتصف، عاجزًا عن فهم الاتجاه الصحيح.
يضحك الجميع، يأتي النادل، يضع المشروبات، ثم ينظر لهم متسائلًا:
عبودة القهوجي: الحساب على مين يا جماعة؟
في النهاية، من يدفع الحساب؟ هذا هو السؤال الأزلي الذي تواجهه الدول والمجتمعات، حيث تتحمل الشعوب تكلفة الصراعات بين النخب المتصارعة، بينما ينسحب “سي السيد” من المشهد، متحسرًا على زمنٍ كان يعتقد أنه أفضل!