بقلم: رانيا ضيف
سألتني ابنتي متعجبة:
ما الذي يمكن أن يكتبه الكاتب في وقت الحرب؟!
بل كيف وثق الأدباء في كتاباتهم تلك الفترات المأساوية ؟!
كيف تكون الكتابة المشحونة بالغضب والخوف والحزن والخذلان؟!
الممزوجة برائحة الدم وأشلاء الأطفال ؟!
كيف يتحمل قلب الكاتب نواح الثكلى وعويل الأرامل وبكاء الطفولة وانكسار الرجولة ؟!
كيف ينام كل ذلك الدمار والموت والخراب في سكون على السطور؟!
أجبتها: تساؤلاتك تفتح جراح الكلمة قبل أن تُكتب، وتُعرِّي الألم الذي يعتصر قلب الكاتب ساعة الحرب.
يا حبيبتي .. في وقت الحرب قطعا لا يكتب الكاتب كما يكتب في السلم.
لأنه لا يفتّش عن الجمال، بل يفتّش عن المعنى وسط فوضى القبح، يحاول أن يكون صوت من لا صوت لهم؛ أذنا للصرخات التي لم تُسمع، كتفا للدموع التي جفّت قبل أن تجد سندًا، ورثاءً للأرواح التي رحلت بلا وداع.
الأدباء وثّقوا فترات الحروب لا بوصف الرصاص والقنابل وصوت الانفجارات وتطاير المباني وتناثر الأشلاء!
بل بتشريح مشاعر الإنسان حين يُسحق تحت عجلات الحرب. كتبوا الغضب لا كفورة، بل كاحتراق داخلي؛ وصفوا الحزن لا كدمعة، بل كهاوية ينهار فيها العقل والقلب.
كتب محمود درويش عن فلسطين بالدموع والغضب، وكتب غسان كنفاني النكبة بنبض اليتامى، وكتب إرنست همنغواي روايته “لمن تقرع الأجراس” عن الحرب الإسبانية بنظرة المنهزم رغم البطولة، أما طه حسين فقد واجه الاحتلال لا بالسيف ولا بالصوت، بل بعقله المستنير، إذ فضح أثره في تدهور الوعي وانكسار الثقافة، كمن يشير إلى النزيف دون أن يصرخ.
الكتابة في الحرب ليست ترفًا يا عزيزتي، بل مقاومة. ليست فقط توثيقًا، بل محاكمة للتاريخ وللبشر. والكاتب رغم ثقل المأساة، يحمّل نفسه واجب البقاء حيًا ليروي، ليكتب، ليتذكّر بدلًا من الذين دفنتهم الأنقاض.
تنام المآسي على الورق لأن الكاتب لا يملك سلاحًا آخر إلا قلمه، ولأنه إن لم يكتب، خسر المعركة الأخرى؛ معركة الذاكرة.
الكتابة في وقت الحرب ليست مجرد حروف، بل صرخة في وجه النسيان.
يرسم الكاتب الحياة عندما تكون بوجوه متعددة وكيف يكون الحب في مرآة الموت وعلى جدران الصمود؟!
حينما تنعدم أسباب الحياة ترتقي الروح ويظهر للسطح جوهر الإنسان فترى تضحيات الآباء حينما يؤثرون أطفالهم بالحياة والغذاء وهم يواجهون الموت كل لحظة ببطون خاوية وعروق عطشى!
أكبر أمانيهم النجاة معهم أو الموت معهم دون عذاب وألم ومعاناة تميتهم في الثانية ألف مرة!
تتضاءل قيمة الحياة إن كانت ستعاش بذلة وهزيمة، فالحياة الأخرى هي نجاتهم وملاذهم الآمن في سبيل تحرير الوطن من دنس المعتدي!
الحياة يتعطل معناها يا حبيبتي في زمن الحرب
ولا يبقى من نبضها سوى قلم لم يقصف.
