نجده محمد رضا
هل نعيش عصر “الترند القاتل”؟
في وقت أصبحت فيه الهواتف الذكية في يد الجميع، لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة للبحث أو التواصل، بل أصبح واقعًا موازيًا يتشكّل فيه وعي الأجيال.
ومع تزايد الإنتاج الرقمي العربي على منصات مثل يوتيوب، تيك توك، إنستغرام وفيسبوك، يطرح السؤال نفسه بقوة
هل المحتوى العربي ينهض بعقولنا، أم يدفنها تحت ركام التسلية السطحية؟
أرقام مقلقة المشاهدات للمحتوى “التافه” بالملايين تشير الإحصائيات إلى أن أكثر المقاطع مشاهدةً على المنصات العربية تتعلق بتحديات سخيفة، مقالب مفتعلة، رقص، شتائم، أو حتى سلوكيات شاذة، في حين أن المحتوى العلمي أو الثقافي أو التوعوي لا يحظى إلا بجزء يسير من التفاعل.
فيديوهات الترفيه الخفيف تحصد ما يفوق 50 مليون مشاهدة.
قنوات تقدم دروسًا مجانية في البرمجة أو اللغات بالكاد تتجاوز 200 ألف مشاهدة.
صُنّاع محتوى مفيدون يشتكون من غياب الدعم رغم جودة أعمالهم.
فهل الخلل في صانع المحتوى؟ أم في ذوق المتلقي؟
محتوى يقتل الوعي.. كيف يؤثر على عقول الشباب؟
من أخطر ما يمكن أن يحدث في البيئة الرقمية العربية اليوم هو تطبيع السطحية، حيث يتعود الدماغ على استهلاك مقاطع قصيرة، مضحكة، لكن فارغة. هذا النوع من المحتوى يقلل من قدرة التركيز والانتباه يُضعف القدرة على التحليل والتفكير النقدي.
يرسخ مفاهيم سامة مثل الشهرة السريعة دون مجهود يربط النجاح بعدد المتابعين لا بجودة الفكر.
وفي المقابل، يصبح التلميذ أو الشاب غير قادر على قراءة كتاب أو مشاهدة محاضرة تعليمية طويلة!
“ترندات” تدميرية.. الشهرة بأي ثمن
في سبيل الوصول إلى الشهرة، يلجأ بعض المؤثرين إلى إنتاج محتوى مثير للجدل، وأحيانًا خادش للحياء أو مخالف للقيم، فقط ليحققوا الانتشار. ومن أبرز المظاهر:
مقالب خطيرة تهدد السلامة العامة.
تصوير الخصوصيات والمواقف العائلية الحساسة.
تشجيع المراهقين على تقليد سلوكيات منحرفة.
تزييف قصص درامية لجذب التعاطف واللايكات.
بعضهم أصبح قدوة سامة لأطفال لا يزالون في سن التكوين النفسي والسلوكي.
الجانب الآخر.. محتوى مبدع ومهم لكنه منسي
رغم هذا المشهد المظلم، لا يمكن إنكار وجود محتوى عربي مميز بالفعل، يقدم العلم والثقافة والفن والمعلومات بشكل ممتع ومحترف. من قنوات تقدم تبسيطًا للتاريخ، وأخرى تشرح الفيزياء بلغة العصر، إلى مبادرات شبابية تنشر الوعي الاجتماعي والصحي.
لكن السؤال: لماذا لا يحظى هذا المحتوى بنفس التقدير أو الدعم من المتابعين أو حتى من المنصات نفسها؟
من المسؤول؟ المستخدم أم المنصة أم صانع المحتوى؟
المشكلة ليست في طرف واحد، بل في منظومة كاملة
المستخدم: ينجذب غالبًا لما هو سريع ومثير حتى لو كان تافهًا.
المنصات: تروّج للمحتوى الذي يحقق تفاعلًا عاليًا، بغض النظر عن مضمونه.
صانع المحتوى: بعضهم يرضخ للترند ويضحي بالقيمة من أجل الانتشار.
الحل في إعادة برمجة الوعي الرقمي إذا أردنا تغيير الواقع الرقمي العربي، فالأمر يبدأ من الفرد
1. الوعي بما نتابعه: إسأل نفسك دائمًا: هل هذا المحتوى يضيف لي شيئًا؟
2. دعم المحتوى الجيد: باللايك، والمشاركة، والتعليق، يمكن أن نصنع الفرق.
3. تعليم الأطفال منذ الصغر كيفية اختيار المحتوى المفيد.
4. التشجيع على الإنتاج الهادف من خلال دعم القنوات التعليمية والتوعوية.
بين “الترفيه” و”التفاهة”.. شعرة رفيعة لا نريد أن تُقطع الترفيه ليس عيبًا، ولا التسلية جريمة، لكن حين يتحول الترفيه إلى تدمير صامت، حين تسود التفاهة وتُقتل القيم، تصبح المعركة مصيرية.
آن الأوان أن نُعيد صياغة وعينا الرقمي، وأن نُدرك أن ما نراه على الشاشة ليس مجرد “فيديو”، بل قد يكون “مستقبل أمة”.
