كتبه: د ابراهيم عوض
وجه الشبه بين الماء والقرآن الكريم. ذكر الإمام الفخر الرازي في كتابه اسرار التنزيل وأنوار التأويل
إذا كان الماء هو الحياة: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الأنبياء ٣٠، فإن القرآن الكريم حياة:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ) الشورى ٥٢.
ومن وجوه الشبه بين الماء والقرآن الكريم قول الله تعالى: “أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ “الرعد:١٧. أي: الإيمان والكفر.فالزبد: الكفر، والإيمان: الماء.
وفي تقرير وجه المشابهة وجوه:
الأول: أن الماء يزيل النجاسة عن الثوب “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا” الفرقان : ٤٨. “وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ” المدثر: ٤. فكذلك القرآن والإيمان يزيل نجاسة الكفر والمعصية عن القلب. قال عليه الصلاة لعمرو بن العاص في صحيح مسلم: أما عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟ وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها؟مسلم.
الثاني: أن الله تعالى سمى الماء المنزل من السماء رحمة فقال: “وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ” الأعراف:٥٧. كذلك سمى القرآن رحمة فقال: “وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” النحل:٦٤.
وجعل الإيمان رحمة وسببًا للرحمة فقال: “كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ”. المجادلة:٢٢
الثالث: أن الله تعالى سمى القرآن مباركًا، فقال: “وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ” الأنبياء : ٥٠ .
وقال: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ” ص:٢٩.
وقال في السماء: “وَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء مباركا ً” ق:٩.
فلا جرم شبه القرآن بالماء لكل واحد منهما مباركًا.
الرابع: أن الماء شفاء للنفوس، والقرآن شفاء للقلوب قال الله تعالى: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” الإسراء:٨٢.
فهو شفاء لقلوبهم ورحمة لذنوبهم.
الخامس: كما أنه تعالى هو الذي تولى إنزال الماء من السماء ولا يقدر عليه أحد سواه، فكذلك هو الذي تولى إنزال القرآن ولا يقدر عليه أحد غيره. (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ). الإسراء: ٨٨.
السادس: كما أن الله إذا أنزل المطر من السماء لم يقدر أحد على دفعه، فكذلك لما أنزل القرآن من السماء لم يقدر أحد على دفعه وإدخال الباطل عليه “وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ”. فصلت: ٤١-٤٢.
السابع: أن المطر لا يقدر مخلوق على أن يحصى عدد قطراته، فكذلك القرآن لا يحيط أحد بكمال أسراره، ولطائف حقائقه.
الثامن: كما أن المطر ينزل من السماء قطرة قطرة ثم يسيل في الأرض نهرًا نهرًا بحرًا بحرًا، فكذلك القرآن ينزل من السماء آية آية ونجمًا نجمًا،ثم صار المجموع أنهارًا وبحارًا .. وفي الخبر: أن القرآن بحر عميق لا يدرك قعره. على بن أبى طالب نهج البلاغة. الخطبة: ١٩٨.
التاسع: أن المطر لو نزل من السماء دفعة واحدة لقلع الأشجار وخرب الديار، وكان الفساد فيه أكثر من الصلاح، فكذلك القرآن لو نزل جملة واحدة لضلت فيه الأفهام وتاهت فيه الأوهام.قال الله تعالى: “لَوْ أَنزَلْنَا هَـذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ”.الحشر: ٢١.
العاشر: كما أن الله تعالى يحيي الأرض بعد موتها بالمطر، فكذلك يحي القلوب الميتة بالقرآن. قال الله تعالى: “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ”. الأنعام: ١٢٢
الحادي عشر: كما أن المطر واحد، ثم أنه يقع على الأرض فيخرج منه الورد والريحان، وعلى أرض أخرى فيخرج منه الشوك والسم، فكذلك القرآن يقع على قلب المؤمن فيخرج منه ورد العبودية، وريحان الطاعة، فكذلك يقع في قلب الكافر فيخرج منه سم الكفر وشوك المعصية. قال الله تعالى: “يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا”.البقرة٢٦.
الثاني عشر: أن في الماء النازل من السماء غنية عن جميع المياه، فكذلك القرآن غنيةعن جميع الكتب والعلوم( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾[ النحل: ٨٩]. وقال أيضا (
مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[ الأنعام: ٣٨]
الثالث عشر: أن الماء الكثير إذا انغمس فيه من لا يحسن السباحة هلك ، فكذلك القرآن إذا تكلم فيه أحد بغير العلم هلك. قال عليه السلام: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ أي (فليهيئ) مقعده من النار.
“مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.” البخارى
الرابع عشر: كما أن الشرب فوق الكفاية يضر ولا ينفع، فكذلك الكلام في القرآن فوق الفهم والفطنة يضر ولا ينفع. قال عليه السلام: أمرت أن أكلم الناس على قدر عقولهم. قال في المقاصد: سنده ضعيف.
الخامس عشر: إذا نزك المطر زال القحط وظهر النبات والغذاء والفاكهة، فكذلك كان قبل نزول القرآن قحط الدين، فلما نزل القرآن زال القحط في الدين وظهر أنواع الغذاء والفواكه للروح.
السادس عشر: كما أن الماء يطفئ النار، كذلك القرآن والإيمان يطفئان عن المؤمن الذي هو حامل القرآن والإيمان نار جهنم.
( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
من أسرار المياه في القران
1.2K
المقالة السابقة
