دارين محمود
يُعد جامع عمرو بن العاص صرحًا معماريًا وتاريخيًا عظيمًا، لا يمثل مجرد مكان للعبادة، بل هو شاهد حي على بداية العمارة الإسلامية في مصر وأفريقيا. تأسس هذا الجامع على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص، فاتح مصر، في عام 21 هجريًا (641 ميلاديًا)، ليصبح بذلك ليس فقط أول جامع في مصر، بل أول مسجد يُبنى في القارة الأفريقية بأسرها.
نشأة الجامع وتاريخه
بعد فتح مصر، اختار عمرو بن العاص منطقة الفسطاط لتكون عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة، وأمر ببناء الجامع في قلب هذه المدينة الناشئة. لم يكن الجامع في بداية الأمر سوى بناء بسيط للغاية، حيث شُيّد من جذوع النخيل والطوب اللبن، وكانت له ستة أبواب. وكان الهدف منه في المقام الأول أن يكون نقطة تجمع للمسلمين للصلاة، وأن يمثل مركزًا لحكم البلاد وإدارة شؤونها. وقد أُطلق عليه اسم “تاج الجوامع” و”الجامع العتيق”، تقديرًا لمكانته التاريخية.
التطور المعماري عبر العصور
على مدار أكثر من ألف عام، مرّ جامع عمرو بن العاص بالعديد من مراحل التجديد والتوسعة التي أضافت إليه لمسات معمارية متنوعة من مختلف العصور الإسلامية.
* العصر الأموي: في عام 53 هـ، أمر مسلمة بن مخلد الأنصاري، والي مصر، بتوسيع الجامع للمرة الأولى.
* العصر العباسي: شهد الجامع أكبر توسعة في عهد الوالي عبد الله بن طاهر في عام 212 هـ، حيث أضاف إليه مساحات واسعة وأقام به مئذنة، وهو ما غيّر من شكله الأصلي بشكل كبير.
* العصر الفاطمي: رغم حرص الفاطميين على تجديد الجامع، إلا أنه تعرض للحريق الكبير الذي أمر به شاور في أواخر عهدهم، بهدف منع الصليبيين من الوصول إلى كنوز الفسطاط.
* العصر الأيوبي: أمر صلاح الدين الأيوبي بإعادة إعمار الجامع بعد الحريق، وأعاد إليه رونقه ومكانته.
* العصر المملوكي والعثماني: استمرت أعمال التجديد في العصرين المملوكي والعثماني، ولعل أبرزها ما قام به مراد بك في عام 1798 م، حيث هدم أجزاء واسعة منه وأعاد بناءها. وهو ما جعل الجامع اليوم يحمل طابعًا معماريًا متأثرًا بعمارة العصر العثماني مع الحفاظ على بعض ملامحه القديمة.
الجامع كمركز حضاري وعلمي
لم يكن جامع عمرو بن العاص مجرد مكان للصلاة، بل كان منارةً للعلم والثقافة. فقبل بناء الجامع الأزهر، كان هو المركز الرئيسي للدروس الفقهية والعلمية في مصر. حيث كانت تُعقد فيه الحلقات العلمية ويُعلّم فيه القرآن والحديث الشريف، كما كان يُستخدم كساحة للقضاء وفض المنازعات بين الناس.
الجامع في العصر الحديث
في يومنا هذا، لا يزال جامع عمرو بن العاص يؤدي دوره الأساسي كمسجد تقام فيه الصلوات، ولكنه تحوّل أيضًا إلى وجهة سياحية وثقافية رئيسية. يزوره آلاف السياح والباحثين من جميع أنحاء العالم للتعرف على تاريخه العظيم. يقع الجامع حاليًا في منطقة مصر القديمة، ويحيط به العديد من المعالم الأثرية الأخرى، مما يجعله جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي للقاهرة.
خاتمة
يظل جامع عمرو بن العاص رمزًا حيًا لافتتاح صفحة جديدة في تاريخ مصر، فهو ليس مجرد حجر وطوب، بل هو سجل يحكي قصة بداية الإسلام في وادي النيل، ويؤكد على أن العمارة الإسلامية لم تكن مجرد بناء، بل كانت فكرًا وحضارةً.
