عبء المعرفة
بقلم السيد عيد
يُقال إن الجهل نعمة…
لكننا لا ندرك صدق هذه الجملة إلا حين نصبح مثقلين بالمعرفة، كمن يحمل على كتفيه ضوءًا لا يقدر على احتماله.
فالضوء، وإن كان جميلًا، يوجِع العيون التي اعتادت العتمة.
المعرفة ليست بابًا من نور فحسب، إنها أيضًا مرآة قاسية، تُريك وجه العالم بلا مساحيق، وتُجبرك على أن ترى نفسك كما أنت، لا كما تتمنى أن تكون.
وحين تنظر فيها، لا تعود كما كنت قبلها.
فكل حقيقةٍ تُكشف، تترك في القلب ندبة.
عجيبٌ أمر الإنسان؛
يُولد جاهلًا، سعيدًا بجهله، يضحك من أبسط الأشياء، يبكي حين يؤلمه شيء، ويهدأ حين يُحتضن.
ثم يكبر، فيتعلم، ويعرف، ويكتشف أن وراء الضحك وجعًا، ووراء الهدوء قلقًا، ووراء كل ابتسامةٍ احتمالًا للخداع.
وحين يعرف، يفقد تلك البراءة التي كانت تحميه من ثقل الوعي.
المعرفة تجعلنا نرى كل شيء بوضوحٍ مؤلم:
نرى الظلم، فلا نستطيع الصمت.
نرى الزيف، فلا نستطيع التصديق.
نرى قسوة الحياة، فلا نستطيع الاحتمال.
تجعلنا نسمع أنين الحقيقة في كل شيءٍ حولنا، حتى في صمت الجدران، وفي تنهيدة الليل حين يمرّ بنا متعبًا من أسرار الناس.
وما أثقل أن تعرف أكثر مما يلزم!
أن تمتلك وعيًا أكبر من قدرتك على الاحتمال.
كأنك تعيش في عالمٍ من الزجاج، ترى كل شيء، لكن لا تقدر أن تلمسه دون أن تنزف.
تتمنى أحيانًا أن تغلق عينيك، أن تعود بسيطًا كما كنت، أن تجهل قليلًا لتعيش أكثر.
لكن المعرفة لا تُنسى، إنها لا تُغادر من عرفها… هي لا تفتح الباب لتخرج.
الذين يعرفون كثيرًا، لا ينامون بعمق.
هم ينامون بعينٍ نصف مفتوحة، وأفكارٍ تسهر في ظلال الرأس.
يتقلبون بين صدقٍ يوجعهم ووهمٍ يحنّون إليه.
يعرفون أن الحقيقة ليست دائمًا أجمل، لكنها ضرورية.
وأن النور لا يأتي مجانًا، بل بثمنٍ من العزلة والشكّ والتعب.
ومع ذلك، لا يمكن أن نكره المعرفة.
كيف نكره ما جعلنا نرى؟
كيف نكره ما علّمنا أن نميّز بين العدل والظلم، بين النور والظلام، بين الإنسان وظلّه؟
لكننا فقط نتمنى لو كانت أخفَّ قليلًا… لو تركت لنا مساحةً صغيرةً للحلم.
ربما يكون الحلّ في أن نُصالح عقولنا بقلوبنا،
أن نسمح للدهشة أن تبقى، وللإيمان أن يتنفّس،
أن نعرف دون أن نتقسى،
ونفكر دون أن نتجمد،
ونبصر الحقيقة، ثم نغلق أعيننا لحظةً كي نرى ما هو أجمل منها: الخيال.
فالمعرفة وحدها لا تُبقي الإنسان حيًّا،
إنها تُنير الطريق، نعم،
لكن القلب هو الذي يجرؤ على السير فيه.
العقل يقول: أنا أفكر إذن أنا موجود.
أما القلب فيهمس من بعيد: أنا أحب، إذن أنا أستحق الوجود.
