د.نادي شلقامي
“بعيداً عن الأضواء التي اعتادتْ أن تلاحقَ البيت الأبيض وطموحات ساكنيه، انزاحت الأنظار هذا العام إلى كاريباس أخرى، تحديداً فنزويلا، لتشتعلَ من جديد حمّى جائزة نوبل للسلام التي تثير الجدل دائماً. ففيما كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يكثِّف شكواه العلنية بشأن تأخُّر تتويجه بالجائزة التي طالما اعتبرها حقاً مكتسباً بفضل ‘إنجازاته’ – والتي كان آخرها التباهي بوقف إطلاق نار ‘إسرائيلي-حمساوي’ – صعق قرار اللجنة الجميع. فقد ذهبت الجائزة الساطعة، التي طالما حلم بها ترامب، إلى زعيمة المعارضة الفنزويلية الشرسة، ماريا كورينا ماتشادو، في رسالة لاذعة وعميقة تخترقُ دوائر القوة العالمية وتُعلي من شأن ‘الحقوق الديمقراطية’ فوق صفقات القوة العظمى. هذا التتويج المفاجئ لم يكن مجرد إعلان، بل هو صاعقة هزّت السردية المعتادة، فهل تترجمُ لجنة نوبل بالجائزة حدود المعارضة العالمية الجديدة، أم أنها تسخرُ بذكاء من ضجيج السياسة الأمريكية الذي لا يتوقف؟”
من هي ماريا ماتشادو؟
في إعلان فوز ماتشادو بنوبل للسلام، وصفها رئيس الجائزة يورغن فرايدنيس بأنها “بطلة سلام شُجاعة…استطاعت الحفاظ على شُعلة الديمقراطية متّقدة وسط ظلام مُتراكم”.
وقال فرايدنيس إن ماتشادو “أثبتت أنّ أدوات الديمقراطية هي أيضاً أدوات السلام…كما أنها تجسّد الأمل في مستقبل مختلف، تُصان فيه الحقوق الأساسية للمواطنين، وتُسمع فيه أصواتهم. وفي مستقبل كهذا سيتمكن الناس أخيراً من العيش في حرية وسلام”.
وتُعدّ ماتشادو، البالغة من العمر 58 عاماً، من أشرس معارضي نظام الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، وكذلك سَلَفه هوغو تشافيز – لتصبح في نظر كثيرين رمزاً لمقاومة الاستبداد في البلاد.
نبذة عن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز
وعلى مدى نحو ربع قرن، “ناضلتْ” ماتشادو بلا توقف في سبيل هدف واحد هو تحقيق الديمقراطية في فنزويلا.
وكان النصف الأول من هذا النضال ضد “الرجل القوي” الراحل تشافيز، الذي قاد البلاد منذ عام 1999 وحتى وفاته.
أما النصف الثاني من “نضال ماتشادو” فكان ضد خليفة تشافيز في الحُكم وهو مادورو، الذي أعلن الفوز في عمليتين انتخابيتين طُعن في نزاهتهما من قِبل مراقبين وحكومات أجنبية مثل الولايات المتحدة.
وتشتهر ماتشادو بأسلوبها الحماسي الناري، في أقصى يمين الطيف السياسي المعارض في فنزويلا؛ حيث دأبتْ ماتشادو على اتهام نظامَي تشافيز ومادورو “بإفقار البلاد عبر سياسات فاشلة وإدارة سيئة”، ما دفع ملايين الفنزويليين إلى الهجرة، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة.
وكانت ماريا ماتشادو عضوة في الكونغرس الفنزويلي، ونظراً لتزايُد شعبية ماتشادو بين الفنزويليين، فقد حظرتْها سُلطات البلاد من خوض سباق الرئاسة ضد مادورو في الانتخابات التي أجريت في يوليو/تموز 2024، كما حظرت عليها السُلطات شَغْل أي منصب سياسي لمدة 15 عاماً، بدعوى تورّطها في قضايا فساد.
أيضاً تحظر السلطات الفنزويلية على ماتشادو مغادرة البلاد منذ عام 2014، كما تحظر عليها استخدام الطائرات في التنقل بين ربوع البلاد.
ولم يترك النظام الفنزويلي أمام ماتشادو وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي سوى تقنية الفيديو، حيث تتواصل مع أبنائها الثلاثة الذين يعيشون في الخارج.
وفي استطلاع للرأي أجري في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال 70 في المئة من المشاركين إنهم سيعطون أصواتهم لماتشادو، في مقابل تسعة في المئة فقط قالوا إنهم يفضلون مادورو، وفقاً لمجلة الإيكونوميست البريطانية. وكانت ماتشادو تقدّمت للترشح على رأس حزب المنصة الوحدوية الديمقراطية، لتقود المعارضة ضد مادورو في عام 2023.
وتعيش ماتشادو في مخبأ داخل فنزويلا منذ أغسطس/آب 2024، ورغم التهديدات التي تطاردها، تتعهد الناشطة الفنزويلية بمواصلة النضال.
وفي حوار مع صحيفة وول ستريت جورنال، قالت ماتشادو إنّ حياتها تغيّرت تماماً منذ باشرتْ هذا الاختباء.
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن الحكومة الفنزويلية تعرف مكان اختباء ماتشادو لكنها مع ذلك تمتنع عن اعتقالها، رغم صدور مذكرة اعتقال بحقها في أواخر 2024، وذلك “خشية أن تشعل مثل هذه الخطوة ردود فعل دولية غاضبة”.
ومع ذلك تواصِل ماتشادو توجيه خطاباتها من مواقع غير معلومة، في محاولة للحفاظ على الآمال الخاصة بحدوث انتقال ديمقراطي في فنزويلا. وبرغم كل ما عانته ماتشادو من مصاعب، إلا أنها تصرّ على أن معركة الديمقراطية لم تنته بعد.
وتسعى ماتشادو إلى تدويل “قضية فنزويلا” على غرار الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي.
وفي ذلك كتبتْ ماتشادو تقول: “أدعو أولئك الذين يرفضون الديكتاتورية ويدعمون الديمقراطية بمناصرة الشعب الفنزويلي في قضيته العادلة..لن نستريح قبل أن نحظى بالحرية”.
وترى ماتشادو أن النظام الفنزويلي يعاني من الضَعف، بسبب انشقاقات عميقة داخل صفوفه، قائلة إن هذا النظام “لم يعُد لديه ما يُقنع به الناس، وإنما كل ما تبقى بيده هو استخدام الإرهاب”.
وفي المقابل، ترى ماتشادو أن الشعب الفنزويلي لا يزال “يمتلك القوة سواء بالتصويت في الانتخابات أو بالامتناع عن المشاركة”، في إشارة إلى انتخابات للمحافظين وممثلي الجمعية الوطنية كانت قد نُظمت في مايو/أيار 2025، ولم تشهد إقبالاً جماهيرياً يُذكر، فكانت مراكز الاقتراع شبه خاوية، وفقاً للإيكونوميست.
ووُلدت مارينا ماتشادو في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1967، في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وهي تنتمي لعائلة من رجالات الصناعة في فنزويلا، حيث كان أبوها هنريك ماتشادو، صاحب أكبر شركة معادن في البلاد، قبل أن تصادرها الحكومة الاشتراكية لتنتهي بها الحال إلى الخراب.
أما والدة ماتشادو فكانت أخصائية نفسية شهيرة ولاعبة تِنس. وكانت ماتشادو الأخت الكبرى بين أربع بنات.
وقد درست ماتشادو الهندسة الصناعية، في جامعة أندريس بيلو بفنزويلا، كما درست السياسة في الولايات المتحدة حيث عاشت زمناً وكوّنتْ علاقات سياسية واتصالات مع الحزب الجمهوري، ما تركها غرضاً لسهام النظام الاشتراكي في فنزويلا الذي يتهمها بالتآمر والإمبريالية.
وطالما كان هذا الانتماء للعائلة الغنية، ثغرة للانتقادات التي تلاحق ماتشادو من قِبل النظام الاشتراكي، لكنّها تصرّ في المقابل على “مشاركة الفنزويليين في الكثير من أحلامهم”.
وفي مسيراتها الحاشدة وسط الفنزويليين، كانوا يقلدّونها عقودا من المِسْبحات، وفي إحدى المرّات قالت: “في كل عقد يمكن أن أتذكر لماذا أقوم بما أقوم به من أفعال، وكَم عدد الصلوات التي تشجّعنا للاستمرار في نضالنا”.
وفي عام 2018، جاء اسم ماريا ماتشادو ضمن قائمة بي بي سي لأكثر 100 امرأة إلهاماً وتأثيراً حول العالم في ذلك العام.
ومن بين عدد من القيادات النسائية العالمية القوية، تعبّر ماتشادو عن إعجابها الشديد برئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر التي تضعها ماتشادو في مصافّ الأبطال.
وتتعهد ماتشادو بعمل “تحوّل شامل” في فنزويلا، عبر خصخصة الشركات العامة والانفتاح على السوق الحرة، وسيادة القانون.
وتأتي خصخصة شركة النفط العملاقة “بتروليوس دي فنزويلا إس أيه” المملوكة للدولة، في القلب من سياسة ماتشادو.
وكانت هذه الشركة ذات يوم من أكبر شركات النفط رِبحية في العالم، قبل أن تتراجع بفضل الفساد وسوء الإدارة في ظل تشافيز ومادورو، بحسب مجلة الإيكونوميست البريطانية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، هنّأتْ ماتشادو على منصات التواصل الاجتماعي دونالد ترامب على إعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، قائلة: “لطالما عوّلنا عليك .. مادورو يدّعي أن الاضطرابات في فنزويلا انتهت. لكن هيهات أنْ يخدع أحداً بهذا الكلام”.
وكان ترامب في فترة رئاسته الأولى قد فكّر في القيام بعمل عسكري للإطاحة بنظام مادورو.
وفي أوّل ردّ فِعل من جانب إدارة ترامب على حصول ماتشادو على جائزة نوبل للسلام، كتب مدير اتصالات البيت الأبيض ستيفن تشيونغ على منصة إكس: “الرئيس ترامب سيواصل إبرام صفقات السلام، لإنهاء الحروب، والحفاظ على حياة الناس … لجنة نوبل أثبتت أنها تقدّم السياسة على السلام”.
وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض لشبكة “سي بي إس”، الشريك الإعلامي الأمريكي لبي بي سي، إن الرئيس اتصل بماتشادو لتهنئتها والقول إنها تستحق الجائزة.
وتعدّ ماريا ماتشادو أول امرأة تفوز بجائزة نوبل للسلام في فنزويلا، لكنها سادس مَن يحصل على الجائزة نفسها في أمريكا اللاتينية.
