تحقيق / السيد عيد
“ماتشربش من الحنفية”.. جملة بقت تتكرر بشكل شبه يومي في البيوت المصرية. على موائد الإفطار وفي الكافيهات والسوبر ماركت، أصبح المشهد مألوفًا: زجاجات المياه المعدنية متراصة بجانب الأطباق، وكأنها صارت جزءًا أساسيًا من حياة الناس. لكن وسط هذا الانتشار الواسع، يظل السؤال قائمًا: هل مياه الحنفية لم تعد آمنة بالفعل؟ أم أن الأمر تحوّل إلى “بيزنس” ضخم يستثمر في مخاوف المواطنين؟
في أحد السوبر ماركت الكبيرة بمنطقة المهندسين، تروي “منى” 38 سنة، موظفة بنك:
“بشتري كرتونة مياه معدنية كل أسبوع. عندي أولاد صغيرين ومش عايزة أخاطر بصحتهم. مش بثق في مياه الحنفية خالص، حتى لو بيقولوا إنها آمنة”.
بينما في حي شعبي بحلوان، يجلس عم “سيد” (65 سنة، موظف بالمعاش) أمام دكان صغير ويضحك قائلًا:
“إحنا شربنا من الحنفية طول عمرنا وماحصلش حاجة.. كان طعمها أحلى كمان. النهارده كل واحد ماشي بزجاجة مياه في إيده، دي موضة مش أكتر”.
قبل أسابيع قليلة، حضر إلى منزلي مندوب من إحدى شركات فلاتر المياه. جلس بثقة وهو يخرج من حقيبته أنابيب صغيرة وزجاجات بلاستيكية وأجهزة اختبار. بدأ حديثه بعبارات مخيفة عن “مخاطر مياه الحنفية”، وأنها – على حد قوله – مليئة بالكلور والمعادن الثقيلة والميكروبات.
ثم قرر أن يقدّم “عرضًا عمليًا”، فطلب كوبًا من ماء الحنفية، وبدأ يُجري عليه ما يشبه التجربة الكيميائية. بعد دقائق، تحوّل لون الماء قليلًا بفعل المواد التي أضافها الي اللون الاخضر وبه بعض الرواسب السوداء ، فهزّ رأسه وقال بثقة:
“شايف؟ دي المياه اللي حضرتك بتشربها كل يوم!”
لكن المدهش أنه بعدها بلحظات، شرب بنفسه من نفس الكوب ليؤكد لي أن “المشكلة مش في الماء.. المشكلة في الوعي”! تركني في حيرة بين شك في كلامه وإعجاب بجرأته، لكن المؤكد أن “الخوف من مياه الحنفية” أصبح وسيلة تسويق فعّالة أكثر من أي إعلان مدفوع.
مصر تنتج سنويًا ما يزيد عن 7 مليارات لتر من المياه المعبأة، بحسب إحصائيات سوقية.
حجم سوق المياه المعدنية يتخطى مليارات الجنيهات سنويًا، وسط منافسة شرسة بين شركات محلية وعالمية.
أسعار المياه المعدنية ارتفعت بأكثر من 30% خلال العامين الماضيين، ما جعلها عبئًا على ميزانية الكثير من الأسر.
دراسة لوزارة الصحة أكدت أن مياه الشرب في القاهرة الكبرى مطابقة للمواصفات بنسبة 97%، بينما المشاكل الحقيقية تكمن في القرى والمناطق العشوائية، حيث شبكة المواسير قديمة أو تالفة.
ماذا يقول الخبراء؟
د. هاني محمود، خبير موارد مائية:
“المياه الخارجة من محطات التنقية في مصر آمنة جدًا ومطابقة للمواصفات. المشكلة مش في المحطات، المشكلة بتبدأ من شبكة المواسير القديمة اللي ممكن تسبب تلوث المياه قبل ما توصل للبيوت”.
د. إيمان عبد الحميد، استشارية تغذية علاجية:
“المياه المعدنية مش دايمًا أفضل. بعض الأنواع فيها نسبة أملاح عالية بتضر مرضى الكلى أو الضغط. مش كل زجاجة مكتوب عليها (معدنية) تبقى صحية”.
مصدر من داخل إحدى شركات المياه المعدنية طلب عدم ذكر اسمه كشف:
“الاعتماد الأكبر في التسويق على فكرة الخوف من مياه الحنفية. الحملات الإعلانية بتزرع صورة ذهنية إن الحنفية خطر والزجاجة أمان. ده أكبر سر في زيادة المبيعات”.
ما لا يعرفه الكثيرون أن بعض شركات المياه المعدنية تستخرج مياهها من آبار طبيعية، بينما أخرى مجرد “مياه شرب عادية” تمت معالجتها وتعبئتها في زجاجات. ورغم أن وزارة الصحة تضع مواصفات قياسية للمياه المعبأة، إلا أن غياب الرقابة المستمرة يجعل المواطن في النهاية هو الحلقة الأضعف.
المصري اليوم واقع بين خيارين:
زجاجة مياه معدنية تُثقل جيبه كل أسبوع.
وحنفية قد تحمل له مخاطر في بعض المناطق بسبب تهالك الشبكات.
وبين التجارب الدعائية، والإعلانات البراقة، وحكايات المندوبين، يبقى السؤال الأهم:
هل المياه المعدنية رفاهية يفرضها بيزنس الإعلانات؟ أم ضرورة يفرضها واقع يعاني من مشاكل البنية التحتية؟
