بقلم… أحمد رشدي
منذ رحيلها،
لم يعرف للنوم طعمًا ولا للنهار معنى،
كان البيت باردًا كقلبٍ توقف عن الخفقان، والجدران تردد أنينًا خافتًا كأنها تشتاقها معه. كل زاوية تحمل ذكرى، وكل ركن يحتفظ ببقايا ضحكتها. كانت سارة حاضرة في كل شيء، غائبة عن كل شيء.
كان يجلس أمام المدفأة كل مساء، يحدق في اللهيب كأنه يبحث في أعماقه عن وجهها، عن ظلها، عن صوتها وهي تناديه برقةٍ تذيب الصمت. الليل ثقيل، والوقت يزحف كأفعى باردة على قلبه، ولا شيء يملأ هذا الفراغ سوى صدى خطواته وهو يدور في البيت الذي صار قبرًا لذكرياته.
حتى تلك الليلة…
ليلة لم تختلف في ظاهرها عن سواها، لكن شيئًا ما في الهواء كان مختلفًا.
رائحة عطرها القديم تسللت إلى الغرفة بلا سبب. سمع همسة خافتة تشبه تنهدها حين كانت تتعب من القراءة.
ثم، من بعيد،
انبعثت نغمة رقيقة من البيانو…
البيانو الذي لم يُمسّ منذ رحيلها.
وقف متجمدًا،
قلبه يطرق صدره كطبول حرب، خطا نحو الغرفة بخوفٍ ممزوجٍ بالحنين.
وهناك، في ضوء القمر المتسلل من النافذة، رآها.
كانت تجلس أمام البيانو، بثوبها الأبيض الذي أحبّه، وشعرها المنسدل يلمع كحريرٍ من ضوءٍ قديم. رفعت رأسها نحوه وابتسمت…
تلك الابتسامة التي عاش عمره كله من أجلها.
قالت بصوتٍ خافتٍ كالموسيقى:
” … أما زلتَ تستيقظ وحدك؟”
اقترب منها بخطواتٍ مرتجفة، مدّ يده نحوها، لكنها كانت هواءً ناعمًا، ومع ذلك شعر بحرارةٍ غريبةٍ تسري في جسده.
قال بصوتٍ متحشرجٍ بالدموع:
“سارة… كم اشتقتُ إليك… أرجوك لا ترحلي مجددًا.”
أطرقت قليلًا، ثم وضعت يديها الشفافتين على وجهه، كأنها تحاول أن تمسح حزنه،
وهمست:
“أنا لم أرحل عنك،
… كنت هنا طوال الوقت. في كل نفس، في كل حلم، في كل ألم .
جلس إلى جوارها، استمع إلى عزفها، كانت النغمة حزينة كهمس وداعٍ قديم.
بكى دون أن يشعر،
دموعه تسقط على الأرض كأنها تُوقظ الغرفة من سباتها.
سألها بصوتٍ منكسر:
“لماذا عدتِ الآن؟”
ابتسمت ودمعة من نور تسقط من عينيها وقالت:
“لأنك لم تعد تتذكرني بالحزن، بل بالحب… والآن فقط يمكنني أن أرحل بسلام.”
الآن…لابد أن أجيب النداء….
مدّ يده إليها للمرة الأخيرة،
لكن الضوء بدأ يخفت حولها،
جسدها الشفاف تلاشى في هواءٍ من ضوءٍ ودموع، وبقيت كلماتها الأخيرة تتردد في أذنه:
“لا تبكِ يا حبيبي، سأبقى في لحنٍ يعزفك… في حلمٍ يلقاك… في نسمةٍ تمرّ بجانبك كل مساء.”
وفي الصباح،
كان ..نائمًا أمام البيانو، رأسه مائل إلى الوراء، وابتسامة صغيرة تزيّن وجهه.
وعلى المفاتيح البيضاء، كانت وردة ذابلة ما زالت تقطر ندى…
وورقة صغيرة كُتب عليها بخطٍ يعرفه جيدًا:
“يا من أحببته… الحب لا يموت، لكنه أحيانًا يتجوّل علي هيئة شبح.”
وداعاً…
