بقلم السيد عيد
ليست كل البيوت آمنة، فبعضها يتنفس حين ينام الجميع.
تغلق الأبواب، لكن الأصوات تبقى.
تظن أنك وحدك، بينما الجدران تُصغي، والسقف يرمقك بعينٍ لا تراها.
في كل بيت قديم ظلٌّ لا يغادر، قطعة من خوفٍ سكنَ الطوب والهواء معًا.
وربما هناك روحٌ علقت بين الجدران، لا تعرف أن الزمن مضى وأنها ماتت منذ زمن بعيد، فتظل تفتح الأبواب ليلًا لتتأكد أن أحدًا لم ينسَ وجودها.
تجلس على الكرسي الخشبي أمام التلفاز، تهمّ بالنوم، ثم تسمع خشخشة خفيفة في الممر.
تقول في نفسك: “الهواء”. لكن لا هواء.
ثم تسمعها ثانية… ثم ثالثة، أقرب هذه المرة، كأنها خطوات حافية تمرّ فوق قلبك.
تريد أن تنهض، لكن جسدك يثقل كالرصاص.
العتمة تُخفي أكثر مما تكشف، ومع ذلك، أنت متأكد أن هناك شيئًا يراك.
ليس خيالك، ولا كابوسًا إنه إحساس دفين بأنك لست صاحب البيت… بل ضيفه.
يناديك صوت خافت من الغرفة المجاورة، بنفس نبرتك، بنفس همسك، كأنك تنادي نفسك من مكان آخر.
تتجمد الدماء في عروقك، وتفهم أخيرًا أن ما يسكن معك لم يكن ينام قط… كان فقط ينتظر أن تُطفئ الأنوار.
تكن الأصوات تأتي من الخارج كما ظننت، بل من داخل الجدران نفسها.
كأن البيت يهمس بأسراره القديمة، تلك التي لم يعد أحد يجرؤ على تذكرها.
صوت طقطقة خفيفة، ثم تنهيدة طويلة، ثم همهمة تشبه البكاء… أو الضحك. لم تعد تفرّق.
اقتربت من الحائط، وضعت أذنك عليه، فسمعت شيئًا غريبًا:
نبضًا.
نبضًا بطيئًا وثقيلًا، كأن الجدار يحتوي قلبًا ما زال يخفق!
تراجعت بخوف، لكن الأرض تحت قدميك أصدرت أنينًا حادًا، ليس صوت خشب بل صوتًا يشبه الألم.
فهمت حينها أن هذا البيت لا يُقيمك بداخله، بل يبتلعك ببطء، ويقتات على قلقك وارتجافك.
كل ليلة، يصبح أثقل قليلًا… كأنك تمنحه عمرًا إضافيًا من خوفك.
وكل صباح، تستيقظ لتجد صورًا على الحائط لم تكن موجودة بالأمس — وجوهًا نصف واضحة، وعينين تحدقان بك كأنهما تحاولان التعرّف عليك.
في إحدى الليالي، وجدت باب غرفة مغلقًا لم تفتحه من قبل.
لا تتذكر أنه كان هناك أصلًا.
تقترب بخطوات مرتجفة، وتسمع من خلف الباب همسًا يشبه صوتك يقول:
“تأخرت… كنا في انتظارك.”
تمد يدك نحو المقبض، وتشعر بحرارة تنبعث منه كأن أحدًا يمسكه من الداخل.
تتراجع، لكن الباب يُفتح ببطء… ومن الظلام يخرج شيء له ملامحك تمامًا، لكنه لا يرمش.
تدرك في تلك اللحظة الحقيقة:
البيت لم يكن مسكونًا… أنت الذي سكنت في جسده.
والآن، هو فقط يستعيد ما كان له.
