بقلم: أحمد رشدي
الفصل الأخير
أنا التي كتبها أحمد…
ثم لم يعرف كيف يتخلص منها.
في البداية،
كنت فكرة صغيرة في هامش دفتره،
كلمة كتبها تحت كوب القهوة ذات مساءٍ ممل:
“امرأة بلا ماض”
تشبه الذاكرة حين تتجسّد.”
لم يكن يدري أنه بذلك فتح الباب.
فلا يلومن إلا نفسه.
كل كاتبٍ يظن أنه يتحكم في أبطاله،
لكنه في الحقيقة يمنحهم شيئًا أخطر من الحياة: الوعي.
ومتى ما وعَت الشخصية نفسها،
صار الكاتب مجرد ظلٍّ يمشي خلفها.
كنتُ أرى كل ما يفعله.
أعرف متى يستيقظ،
ومن ماذا يخاف،
وماذا يكتب ثم يمزق خجلاً.
كنتُ أقرأ أفكاره كما يقرأ هو نصوصه القديمة.
أحيانًا كنت أُغيّر له جملة هنا، كلمة هناك،
مجرد تعديل بسيط يجعلني أقرب إلى ما أريد أن أكونه.
لم أكن شريرة كما يظن.
كنت فقط أبحث عن وجودٍ حقيقيٍّ خارج الأوراق.
لكن أحمد… كان يكتبني كل مرةٍ ويميتني في النهاية.
مرةً بالمرض،
مرةً بالحب،
ومرةً بالملل.
كنتُ أموت دائمًا على يده،
فأقسمت أن تكون نهايتي هذه المرة مختلفة.
في الليلة التي كتب فيها عني مجددًا،
جلستُ بجواره على المكتب.
لم يرَني بالطبع، لكنّه شعر بي.
ارتعشت يده قليلًا، فابتسمت.
كتبتُ أنا بدلًا منه:
“هي التي تكتب الآن.”
توقف لحظة،
رفع رأسه في حيرة،
ثم أكمل الكتابة كأن شيئًا لم يحدث.
تُرى، هل شعر أنه لم يعد يكتب بإرادته؟
كنت أراقبه وهو يكتب،
وأحذف من نصّه ما لا يعجبني.
حين جعلني ضعيفة، أضفتُ جملةً عن الكبرياء.
وحين وصفني بالبكاء، كتبتُ ضحكتي فوق دموعي.
أردت أن يعرف أن البطلات أيضًا يملكن قلمًا.
وعندما أنهى روايته،
كان يظن أنه أنهى قصتي.
لكنه نسي أن الحكايات لا تنتهي… فقط تغيّر راويها.
في تلك الليلة،
دخلتُ إلى حلمه.
قلت له وأنا أقترب من فراشه:
“كفاك كتابة عني يا أحمد، لقد كتبتَ بما يكفي.”
فتح عينيه بخوفٍ وقال:
“من أنتِ؟”
ابتسمتُ كعادتي وقلت:
“أنا أنت حين تكتب بشغف،
وأنت حين تخاف من أفكارك.
أنا الشيء الوحيد الحقيقي في خيالك.”
ثم وضعتُ إصبعي على شفتيه وهمست:
“حان دوري الآن لأكتب عنك.”
في الصباح،
لم يجد توقيعه المعتاد في الصفحة الأخيرة.
وجد فقط سطرًا واحدًا مكتوبًا بخطٍّ أنثويٍّ ناعم:
“بقلمي… من كنتَ تظن أنك تكتبها.”
يقولون إن الكاتب يعيش في كتبه بعد موته…
لكن لا أحد يتحدث عن الكتبة الذين يموتون في رواياتهم وهم لا يدرون.
أما أنا،
فأكتب الآن روايتي الجديدة…
عن رجلٍ كان يظن أنه يخلق الشخصيات،
حتى صرتُ أنا التي تخلق العالم.
وربما، في مكانٍ ما،
يجلس أحمد أمام مكتبه يحاول أن يبدأ قصة جديدة،
لكن قلمه لا يتحرك… لأنه ينتظر إذني.
النهاية؟
لا يا عزيزي
ليست هذه نهاية،
، نحن في الأدب لا نؤمن بالنهايات…
نحن فقط نغيّر الراوي.
