قصة قصيرة
بقلم: أحمد رشدي
كان كل شيء بسيطًا كنسمة صباحٍ رقيقة،
شابٌ يحب، وفتاةٌ تحلم، ووطنٌ ينادي أبناءه في ساعة الوفاء. لم يكن يدري وهو يودعها على رصيف القطار أن تلك اللحظة ستكون آخر ما تبقّى بينهما من عمرٍ مضى،
وأن الحرب التي يخوضها في الميدان ستولد حربًا أخرى في قلبه لا تهدأ أبدًا
ذهب إلى الجيش مرفوع الرأس،
يحمل في صدره حبًّا لوطنه أكبر من الخوف، وحبًّا لها أكبر من النسيان.
كتب لها رسائل كثيرة لم تصله إجابة على واحدةٍ منها.
ظنّ في البداية أن البريد تأخر،
ثم أدرك لاحقًا أن القدر لم يتأخر بل قرّر فقط أن يُعلّمه مرارة الفقد
وحين عاد من خدمته،
كان كل شيء قد تبدّل. علم أنها خُطبت ثم تزوجت،
وحاول أن يبتلع الألم كما يبتلع الجندي غصّة الهزيمة دون أن ينهار.
عاش صامتًا، حتى جاءه صوتها بعد أعوامٍ، مرتجفًا، تطلب عودته. كانت مطلقةً الآن، مكسورةً، تروي له ما لاقته من قهرٍ، وما أجبرها عليه أهلها،
وكيف لم يزل اسمه محفورًا في قلبها
تألم كثيرًا،
وبكى أكثر،
لكن الحنين كان أقوى من الكبرياء.
عاد إليها بخطواتٍ مترددة، فعانده القدر من جديد. رفض أهلها عودته، وأصرّوا على أن تصالح زوجها السابق الذي عاد نادمًا.
انكسر هو للمرة الثانية، ووقف على حافة العمر يلوّح لها مودّعًا، ثم مضى
في عمله الجديد، وجد نفسه بين أوراقٍ كثيرة، وضوضاءٍ تملأ الفراغ الذي خلّفته.
وهناك تعرّف على زميلته الرقيقة التي دخلت حياته كالنور بعد ليلٍ طويل.
كان وجهها يشبه السلام، وكلماتها تشبه المطر. أحبّها دون ضجيج، فنبض قلبه من جديد، كأن القدر يعتذر له
لكنها عادت. تلك التي أنهكته يومًا، وقهرته باسم الحب، عادت تبكي وتترجّى أن يعود إليها بعدما تركها زوجها إلى الأبد. سمعها في صمت، ورأى في عينيها كل الحكايات التي انتهت،
ثم قال بهدوءٍ موجع:
“لقد انتصرنا يا عزيزتي… أنا على قلبي، وأنتِ على نفسك، ولكن لا أحد منا نجا”
رحلت باكية،
بينما مضى هو في طريقه نحو زفافه، يبتسم لزميلته التي أصبحت زوجته،
والدمعة في عينيه تهمس:
من الذي انهزم حقًا؟
الذي ترك الحب، أم الذي خسره؟
في تلك الليلة،
كانت هي تبكي في ركنٍ بعيد،
وهو يرقص على أنقاض الماضي.
كلاهما خسر،
لكن أحدهما فقط استطاع أن يبتسم بعد الهزيمة.
