رانيا ضيف تكتب “الوهم المقدس”

جلس يمارس طقوسه الدينية ويبتهل بصوت جهوري مستخدمًا سحر البيان، عرف كيف يخترق قلوب البسطاء فيستمع إليه المحيطون بوجل واحترام.
رجل في الخامسة والخمسين من العمر، متوسط الطول، ملامح وجهه تنم عن وقار ماكر.
يتقن فنون الكلام فتنساب الكلمات تخطف لب الجهلاء، أقنعهم بطريقته الخاصة أن كوخه الطيني البسيط له قدسية وأن الله يرضى عن تلك البقعة المباركة.
اتخذه الناس إمامًا وفيلسوفا وقائدا وإن شئت قل أميرًا بلا إمارة!
بنى العابرون حوله أكواخا مماثلة لكوخه، وعاشوا يخدمونه ويرعون أغنامه ويزرعون أرضه.
كانت أكواخهم على ربوة تهبط منها لتجد نهرا عريضا، وعلى امتداد البصر من الضفة الأخرى مدينة بها ناطحات سحاب شاهقة الارتفاع وقصور فخمة، ويبدو أنها مدينة بلغت أوج الحداثة والتقدم، كان الضباب يحجب رؤيتها أغلب الوقت وكأنها سراب أو خيال.
عندما تساءل الناس عن تلك المدينة العجيبة،
أجابهم: أنها بلاد الفسق والفجور وأن الله يتوعدهم بعذاب قريب.
فهم طالبو الدنيا وزاهدون في الآخرة وما عند الله خير وأبقى.
مرت السنوات وازداد عدد أتباعه حتى أصبحوا قرية صغيرة.
كان يجتمع بهم كل ليلة جمعة، يعظهم تارة ويؤنبهم تارة أخرى.
وفي إحدى جلساته لاحظ اهتمام شاب بالمدينة البعيدة، فكانت تساوره الشكوك ويتملكه الفضول، وسبق أن سأله عنها فلاقى نهرا وتعنيفا ممن حوله في ظل صمت أميرهم.
عاش الجميع راضين بهذه الحياة البدائية مقتنعين أنهم الفئة الناجية على وجه البسيطة.
وأن مدينتهم مقدسة لن يصيبها سوء قط ..
ولكن ظل ذلك الشاب يُحركه الفضول ويبدو أنه كفر بمعتقدات قريته وأميرهم.
قرر أن يُبحر لتلك المدينة خلسة فعقوبة من يتجرأ على التفوه بهذا الفعل الموت المحقق.
كان هناك على جانب النهر قاربًا قديمًا-لا أحد يهتم لأمره – قرر أن يستخدمه في رحلة استكشافه.
وفي ليلة ظلماء تسلل لذلك القارب وكانت القرية تغط في سبات عميق.
بدأ يجدف حتى وصل لمنتصف النهر لكن فقد سيطرته على القارب الذي امتلأ بالماء إثر وجود ثقب خفي، وغاص القارب في النهر وهو داخله يصرخ ويستنجد لكن لا مجيب.
خلف الشجر على الضفة كان يراقب غرقه ذلك الأمير المزعوم.
غرق الشاب وعاد قائدهم لكوخه دون أن يلمحه أحد.
استيقظ أهل القرية في الصباح ليجدوا جثة طافية في النهر قرب الشاطئ، وما أن اقتربوا حتى وجدوه ذلك الشاب !
أجهش الجميع في البكاء والنحيب يسأل بعضهم بعضا :
ماذا حدث ؟
كيف غرق الشاب ولماذا نزل النهر من الأساس؟
ليجيب بعضهم:
كان دائم السؤال عن تلك المدينة ربما أصابته لعنتها .
وآخر يقول :
ربما كان ينوي الذهاب لتلك المدينة فأغرقه الله وغضب عليه.
وتظاهر قائدهم بالحزن والأسى على هذا الشاب الذي عرض نفسه لغضب الرب وعذابه،
فهو من خالف القوانين فحل عليه العذاب.
دُفن الشاب ودفنت معه أي فكرة لاستكشاف تلك المدينة والخروج عن ثقافة القطيع .
مر اليوم وتلته أيام ونسي الجميع وتمادوا في غيهم.
حتى سُلطت على هذه القرية سيولا شديدة وعواصف عاتية اقتلعت أكواخهم من محلها وهدمتها ..
كان الجميع يصرخ في ذهول، والوحل والسيول والرياح تحيط بهم من كل جانب.
في بضع ساعات انتهت القرية بين موتى وجرحى وأكواخ مهدمة!
مرت العاصفة وهدأت الأمطار ليجد الناجون من أهل القرية تلك المدينة الفاسقة تقف شامخة
ولم يصبها شيء قط، وقريتهم محطمة!
استيقظ الجميع من غيبوبتهم ليجدوا زعيمهم بين الأوحال يصيح : أصابتنا لعنة الشاب العاصي.