على مرمى البصر”رحلة الأراضي الحجازية”

بقلم إبراهيم الديب
كلمة في أدب الرحلات كمقدمة او تمهيد لكتابي:
منذ الصغر وقعت غرام القراءة، وكان لأدب الرحلات منها نصيب كبير ،لأنه هذا الجنس الأدبي من وجهة نظري: يجمع بين السيرة الذاتية، و سيرة المكان واستدعاء تاريخه في بعض الأحيان ، وهناك كتابه من يلقي الضوء على ماضيه زيادة للمتعة والفائدة، تختلف بالطبع كتابة كل اديب عن الآخر؛ حسب تكوينه الثقافي وأسلوب تناوله ، وتصوره للكون والحياة وموقفه من الأشياء، وقدرته على التصوير واخبار القارئ ومحاولته بقدر الاستطاعة مشاركته نفس الاحساس، والشعور الذي تركته التجربة في نفسه ، وبالطبع ليس كل من سافر يستطيع نقل تجربته للآخرين.
اكثر من تأثرت بكتبهم في هذا الجنس مجموعة كتاب اولهم “أنيس منصور” فأسلوبه يختلف عن تناول دكتور” مصطفي محمود” ولا تتطابق مع كتابة” محمود السعدني” أو “مصطفى أمين” الذي قرأت له كتاب بعنوان “امريكا الضاحكة زمان” فكل منهم يعتبر مدرسة في حد ذاته، وله أسلوبه الذي يتمتع به يميزه ، انيس منصور مثلا :يتجول بك في حدائق معرفة الدنيا السبعة تقف في وسط الصفحة وكأنك في ميدان تشاهده بتفاصيله كتابة :مزيج من الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والأدب وعلم الاجتماع في كبسولة واحدة ، كاتب يتمتع بقدرة على لضم أكثر من خيط في موضوع واحد لا ينقصها الانسجام ، تزيد سطوره ثراء لما تحويه :من معرفة نتيجة قراءته في شتى فروع المعرفة فهو موصل جيد لأفكار غيره فهو وسيط بينك وبينه؛ بأسلوبه الممتع الرشيق وهناك من اعتبره احد الكتاب الذي نقرأ لهم من أجل الأسلوب وسلكه زمرة هذه المجموعة التي تتكون من المنفلوطي وطه حسين والمازني واحمد حسن الزيات وإحسان عبد القدوس ولذا تتسرب ثقافته الموسوعية بداخل سطوره لرأس القارئ ، اثناء ترحالك معه في بلاد الله خلق الله ” واليمن ذلك المجهول” اطيب تحياتي من موسكو ” وتظل ملازم له تغادر بلاد وتستقبلك أخرى وكأنك شريكه في هذه المغامرة في رحلته الشهيرة “حول العالم في مائتين يوم” “وأنت في اليابان “وغيرها فهو أحد سحرة الكتابة حتي لو لم تكن هناك قضية يناقشها، أو قصة يرويها.
أما مصطفى محمود الذي ينظر للحياة نظرة تأمل عميقة عقل فيلسوف وقلب صوفى: يسلط فيها تجربته العقليه و اشراقه الروحي على: اعقد القضايا الميتافيزيقا والثقافية والدينية من تلك التي حار فيها الفلاسفة منذ عهد الدنيا السحيق ، وارقت العقل البشري والنفس الإنسانية بأسئلة عن الوجود والعدم والمصير، وعن حكمة : ما يكابده الانسان الضعيف الذي حمل الأمانة المتمثلة فى الوعى بكل الكائنات ،فيسلط مصطفى بناه المعرفية والثقافية وقراءته العريضة العميقة في الأديان السماوية والفلسفة الأرضية في محاولة فك طلسم الوجود ولغز الحياة و الموت، اهم ما يميز مصطفى محمود أنه وهو يقرأ ويكتب و ينظر للحياة ليس بعقله المتفلسف بطبعه وفقط ولكنه ينظر للحياة وتعقيداته من كل جوانبها بكل تكوينه الثقافي الموسوعي العميق العتيد وبشفافية الصوفي ووجدان المحترف شوقاً للمعرفة ،وهذا النظرة المتكاملة الفريدة هي ما اكسب كتابته ؛بعدا فلسفيا عميقا شاملاً نفذ من خلاله ونفذ به لداخل اعقد قضايا المصير والعدم والوجود وسر خلق الانسان واستخلافه من قبل الله في ارضه، وفق مصطفى في هذه الخطرات الفلسفية للنفاذ لتفكيك بعض هذه القضايا وشرحها ببناه الثقافية والمعرفية والفلسفية ؛بعقله ونفسه ووجدانه وتجربته الصوفية العميقة ،لا نقصد بالفلسفة هنا مذهب فلسفي مغلق كما عند هيجل أو “ايمانويل كانت” او “اسبينوزا” ولكنها دفقات وخطرات ينفذ من خلالها لبعض أسرار الحياة، تسربت هذه فلسفته وافكاره العميقة وقضاياه الشائكة بداخل كتب رحلاته “حكايات مسافر” والغابة” والطريق الى الكعبة “وغيرها, وكان لها نصيب كبير ..
اما محمود السعدني الشقي المبهج الذي يقع في حيرة كل اراد تقييم هذا الكاتب الفريد ولابد انه سائل نفسه قبل أن يشرع في الكتابة عنه ؛ من أي زاوية وجانب من إنتاجه؛ يبدأ فقد أبدع وأمتع واجاد في كل ما خطه بقلمه, حتي تظن إذا قرأت سيرته الذاتية أو رباعيته الشهيرة المعنونة “بالولد الشقي” بأنها؛ أفضل ما سطر قلمه ودرة تاج كتبه ،ثم تقرأ له في أدب الرحلة فتجلس مع نفسك لتعييد تقييم الرجل من جديد بعد بت على قناعة تامة أنه لم يخلق الا لهذه الجنس من الكتابة، وهذا ما أقسمت به: بيني وبين نفسي بعد التهامي كتاب رحلات له ؛اصفر ورقه صغير احجمه اشتريته: بربع جنيه صادر عام ١٩٧٠ بعنوان “بلاد تشيل وبلاد تحط ” وهذا الكتاب كان كفيلاً بعد قراءته أن التهم كل كتب رحلاته” السعلوكي في بلاد الافريكي ” وامريكا يا ويكا “والموكوس في بلاد الفلوس” وغيرها، وهناك شبه اتفاق أن محمود السعدني أفضل من :كتب المقال, تتميز كتب رحلات السعدني بتحليل مجتمع الدول التي زارها وخاصة من جانبها السياسي والاجتماعي مشفوعا ببعدها التاريخي الذي يلقي عليه الضوء في عجالة تشعر القارئ أنه لم يعد في حاجة لقراءة المزيد عنها وهي موهبة تقف خلفها ثقافة موسوعية وعمق نظرة في تناوله اعقد القصايا بأسلوب ساخر حتى تعتقد انه لا يكتب بل يتحدث وهو جالس على المقهى ببساطة شديدة وبتلقائية وعفوية تنساب لداخل عقلك ونفسك ، في مفاجأة للقارئ بانه أقرب لفلاسفة التاريخ فهو هنا في هذا الباب أقرب ” لجيبون” وفولتير ” أو “عبد الرحمن بن خلدون” وهم من كتبوا في التاريخ على انه جزء من الأدب. السعدني يبدأ من أسباب ومقدمات ،وينتهي لنتائج علمية دون أن يذكر لك أنه محلل او مفسر للتاريخ ،بدا ذلك واضحاً في قنبلته التاريخية “مصر من تاني “الذي أعاد فيه كتابة تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي الى عصرنا الحاضر، او بمعنى أصح أعاد تصحيحه لأنه مزور او ناقص بمعنى أصح لأن من كتبه مؤرخ جزء من السلطة ويتبنى وجهة نظرها، اما كتاب السعدني لتاريخ مصر فيشبه كبسولة مضغوطة ؛عبرت بعمق عن حياة عن بصدق عن شعب عاش و كابد وتألم وقهر وبكي أما ابتسامته فكانت سخرية لاذعة لحكامه، و للزمن، والقدر ولنفسه، ضمنها السعدني “كتابة مصر من تاني ” الذي وكأنه خالطهم صباح مساء خلال هذه العصور يومنا هذا ، تاريخ بأسلوب عفوي بسيط تلقائي ساخر تضحك ملء فيك على الرغم من قتامة الموضوع.
وجدت أنه لابد من ذكر علاقتي بهذا الجنس الأدبي و بما تركه اعلامه في نفسي ؛قبل أن أقدم لرحلتي إلى” المملكة العربية السعودية” وهي في الأصل رحلة لأداء مناسك العمرة تندرج تحت السياحة الدينية, ولم أخطط للكتابة عنها ولكن حدث مع هذه الرحلة كما قمت به في كتابي “صخب العمر “وهو سيرة ذاتية لفترة التجنيد الذي كتبت منه نصوصا متفرقة ، فأخبرتني مجموعة كبيرة من القراء وطلبوا مني الاستمرار في كتابتها لأنها جيظة على حد قولهم ، منذ ركوبي القطار من دمياط حتى الانتهاء من الخدمة العسكرية ، وصدر الكتاب كاملا وطبع بعدها عدة مرات، وهذا بالضبط ما حدث لرحلة السعودية التي نقدم لها، فبعد كتابة نصوصاً منها ونشرها على الصفحة طالبني الاصدقاء بالاستمرار كما حدث, في كتاب” صخب العمر ” وأن تكون البداية منذ استقلال الاتوبيس من دمياط لا تنتهي الا بالعودة إليها مرة أخرى، فقمت بوضع ما كتبته سابقآ دون ترتيب في سياق الأحداث وترتيبه الزمني لرحلة وهي بعنوان أحدي المقالات” على مرمى البصر” .
**********