د.نادي شلقامي
في كل مرحلة تاريخية يقف الإنسان أمام مرآة الزمن متسائلًا: هل نحن الذين تغيّرنا، أم أن الزمن هو من أعاد تشكيلنا؟ سؤال قديم يتجدّد مع كل حرب، وكل ثورة، وكل قفزة تكنولوجية، وكل خيبة إنسانية. فالأزمنة لا تمرّ مرورًا عابرًا على البشر، بل تترك بصماتها العميقة على العقول، وتختبر صلابة القلوب.
عبر التاريخ، لم تتبدّل الطبيعة الإنسانية في جوهرها بقدر ما تبدّلت طرق تعبيرها. فالخوف، والطمع، والحب، والرحمة، والرغبة في السلطة، كلها مشاعر قديمة قِدم الإنسان نفسه. لكن الزمن يعيد ترتيب أولوياتها، ويغيّر المساحات التي تحتلها داخل النفس البشرية. ففي أزمنة القحط، يعلو صوت البقاء على صوت القيم، وفي أزمنة الرخاء قد تتراجع الحكمة لصالح الترف واللامبالاة.
التغيّر الحقيقي غالبًا ما يبدأ في العقول قبل القلوب. فحين تتبدّل المعايير، وتتغيّر أنماط التفكير، يصبح ما كان مرفوضًا بالأمس مقبولًا اليوم، وما كان مقدّسًا يتحوّل إلى عبء. العقول تتأقلم مع الواقع الجديد، تبرّر، وتسوّغ، وتبحث عن منطق ينسجم مع إيقاع العصر. أما القلوب، فهي أبطأ في التغيّر، وأكثر مقاومة؛ إذ تحمل ذاكرة القيم، وأثر التربية، ووجع التجارب الأولى.
غير أن قسوة الأزمنة الحديثة، بما تحمله من صراعات وضغوط وتسارع مفرط، دفعت كثيرين إلى إعادة تشكيل قلوبهم قسرًا. صار التعاطف رفاهية، والصمت فضيلة، والنجاة الفردية هدفًا مشروعًا ولو على حساب الآخرين. لم يعد الشر صادمًا كما كان، بل أصبح اعتياديًا، يمرّ في نشرات الأخبار دون أن يوقظ الضمير الجمعي إلا نادرًا.
ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأن الزمن قادر وحده على تغيير الإنسان بالكامل. فالتاريخ نفسه يشهد على ثبات نماذج إنسانية قاومت تغيّر الأزمنة، وحافظت على نقاء قلوبها ووضوح عقولها. في كل عصر، هناك من يختار أن يكون شاهدًا لا تابعًا، وأن يحتفظ بإنسانيته وسط العواصف، مؤمنًا بأن الأخلاق ليست موضة زمنية، بل مبدأ لا يشيخ.
الزمن لا يغيّر البشر بقدر ما يكشفهم. يكشف ما في العقول من قناعات حقيقية، وما في القلوب من صدق أو زيف. فحين تتغيّر الظروف، يسقط القناع، ويظهر الإنسان على حقيقته: إما وفيًا لقيمه، أو متحوّلًا وفق مصلحة اللحظة.
في النهاية، قد تتغيّر الأزمنة، وتتبدّل السنين، لكن السؤال الأهم يظلّ معلقًا: هل نسمح للزمن أن يعيد تشكيلنا بلا وعي، أم نعيد نحن تعريف علاقتنا به؟ فالإنسان، مهما قست الأزمنة، يظلّ مسؤولًا عن عقله، وأمينًا على قلبه، وما بينهما تُصاغ ملامح الإنسانية الحقيقية.
