بقلم السيد عيد
نحن لا نعيش فقط في بيوتٍ من طوب، بل في بيوتٍ من عادات، بعضها يحمينا، وبعضها يضيّق علينا الخناق حتى نختنق ونحن نبتسم. نمشي في الشوارع نفسها كل يوم، نلقي السلام نفسه، ونكرر الجمل نفسها، لكننا في الداخل لسنا الأشخاص أنفسهم. شيء ما يتآكل بهدوء، مثل جدار قديم تأكله الرطوبة ولا يسمع أنينه أحد.
على الرصيف ترى المجتمع عاريًا بلا مكياج. الغني يعبر مسرعًا وكأن الأرض لا تخصه، والفقير يجلس طويلًا كأن الرصيف صار وطنه المؤقت. بائع الجرائد يعرف الأخبار قبل أن تُطبع، وسائق التاكسي يحلل السياسة أفضل من نشرة الثامنة، والعجوز التي تبيع المناديل تعرف أسرار الناس من دموعهم أكثر مما تعرفه كتب علم الاجتماع.
نحن شعب يجيد الحكاية، لكنه يخاف من الحقيقة. نحكي عن الأخلاق أكثر مما نمارسها، ونرفع لافتات القيم بينما نكسرها في أول زحام. نغضب من الكذب، ثم نكذب “كذبة بيضا” لنمشي أمورنا. نشتم الفساد بصوت عالٍ، ثم نبحث عن “واسطة” بصوت أخفض. نريد العدل كاملًا، بشرط ألا يبدأ بنا.
أخطر ما أصابنا ليس الفقر، بل الاعتياد. اعتدنا الزحام حتى صار الصمت مخيفًا، واعتدنا الشكوى حتى صرنا نخاف الحل، واعتدنا القبح حتى صار الجمال غريبًا يحتاج إلى تفسير. لم نعد نسأل: لماذا؟ بل نسأل: “هو كده”، وكأن “كده” قدرٌ لا يُراجع ولا يُناقش.
في البيوت، تتغير اللهجة. الأب الذي كان يومًا حالمًا صار واقعيًا زيادة عن اللزوم، والأم التي كانت تغني صارت تحسب، والطفل الذي كان يسأل صار يصمت. كبرنا ونحن نتعلم كيف نتماشى، لا كيف نواجه. كيف ننجو، لا كيف نُصلح. كيف نضحك في الصورة، لا كيف نرتاح بعدها.
ومع ذلك… لا يزال في القلب متسع للأمل. يظهر فجأة في موقف صغير: شاب يعيد محفظة سقطت من عجوز، امرأة تقسم رغيفها مع قطة جائعة، جار يسأل بصدق: “طمنّي عليك”. أفعال بسيطة، لكنها تذكّرنا بأن الخير لم يمت، هو فقط خجول، ينتظر من يطمئنه.
نحن لا نحتاج إلى خطب طويلة عن الإصلاح، بل إلى شجاعة صغيرة نمارسها يوميًا. أن نقول “لا” حين يجب، و“آسف” حين نخطئ، و“شكرًا” دون مصلحة. أن نربي أبناءنا على السؤال لا على الخوف، وعلى الاحترام لا على الطاعة العمياء. أن نفهم أن المجتمع ليس “هم”، بل “نحن”… بكل تناقضاتنا.
على الرصيف، حيث تسقط الأقنعة، تتساوى الأقدام وإن اختلفت الأحذية. وهناك فقط، نفهم أن التغيير لا يبدأ من فوق، بل من خطوة صادقة تمشي في الاتجاه الصحيح. خطوة لا تُصفّق لها الجماهير، لكنها تغيّر الطريق بهدوء.
وربما… هذا الهدوء هو بداية النجاة.
