بقلم: صلاح الدين عثمان
اليَوْمُ التَّاسِعُ وَالعِشْرُونَ مِنْ دِيسِمْبَرَ ١٩٧٧م (الخَمِيسُ، السَّادِسَةُ صَبَاحًا).
مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ غَادَرَتْ مَطَارَ الخُرْطُومِ سَفَرِيَّةُ “الشَّمْسِ المُشْرِقَةِ” فِي اتِّجَاهِ الشَّرْقِ.
كُنْتُ حِينَئِذٍ فِي البَرَارِي أُرَاقِبُ إِقْلَاعَهَا، وَشَاهَدْتُهَا حَتَّى غَابَتْ عَنِّي.
بِالأَمْسِ كَانَتْ مِلْءَ سَمْعِي وَبَصَرِي، فَقَدْ كُنْتُ أَوَّلَ الحَاضِرِينَ وَآخِرَ المُنْصَرِفِينَ.
طِوَالَ فَتْرَةِ وُجُودِهَا فِي عَاصِمَةِ بِلَادِي، كَانَتْ أَيَّامًا لِلتَّوْثِيقِ عَلَى عَهْدٍ جَدِيدٍ نَرْقُبُهُ، نَسِيجًا مِنْ خُيُوطِ أَحْلَامِ المُنَى فِي صَدْرِ الشَّبَابِ.
التَّحِيَّةُ لَهَا فِي هَذَا الصَّبَاحِ، مَعَ الأَمَانِي الحُلْوَةِ.
أَسْرَعْتُ الخُطَى لِأَصِلَ إِلَى مَقَرِّ دِرَاسَتِي عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ الأَبْيَضِ فِي الإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
هُنَاكَ، كَانَ المَكَانُ يَتَّسِعُ لِأَحْلَامِي، وَيَتَشَابَكُ فِيهِ الخَيَالُ مَعَ الأَمْوَاجِ.
أَرَاهَا فِي الخَيَالِ، وَأَنْسُجُ فِي الأَحْلَامِ مَقْبِلَ الأَيَّامِ.
كُلُّ مَوْجَةٍ تَتَكَسَّرُ عَلَى الشَّاطِئِ كَانَتْ تُشْبِهُ وَعْدًا مُؤَجَّلًا، وَكُلُّ نَسِيمٍ يَهُبُّ عَلَى وَجْهِي كَانَ يَحْمِلُ صُورَتَهَا فِي صَدْرِي.
كَانَ الزَّمَانُ يَتَحَرَّكُ بَطِيئًا، كَأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ مَعِي مَسَارَ الحُبِّ المُنْتَظَرِ.
السَّاعَةُ فِي يَدِي تَدُقُّ، وَكُلُّ دَقَّةٍ كَانَتْ تُشْبِهُ نَبْضًا يَسْأَلُ: هَلْ يَبْدَأُ الحُبُّ فِي الغِيَابِ، أَمْ فِي الحُضُورِ؟
الفَجْرُ يَحْمِلُ وَعْدًا، وَالغُرُوبُ يَحْمِلُ ذِكْرَى، وَبَيْنَ الفَجْرِ وَالغُرُوبِ يَتَشَكَّلُ يَوْمٌ جَدِيدٌ، يَتَّسِعُ فِيهِ الخَيَالُ، وَتَتَفَتَّحُ فِيهِ أَحْلَامِي كَزُهُورٍ عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ.
دَخَلْتُ أَرْوِقَةَ الجَامِعَةِ، فَإِذَا الجُدْرَانُ تُشْبِهُ صَفَحَاتٍ بَيْضَاءَ، تَنْتَظِرُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا حُرُوفُ الحُبِّ المُؤَجَّلِ.
المَقَاعِدُ تَتَشَابَهُ، وَكُلُّ مَقْعَدٍ يُشْبِهُ مَسْرَحًا صَغِيرًا، يَتَفَتَّحُ فِيهِ مَشْهَدُ الخَيَالِ، وَيَتَشَكَّلُ فِيهِ وَجْهُهَا كَأَنَّهُ يَجْلِسُ جَانِبِي.
الجَامِعَةُ لَمْ تَكُنْ مَكَانًا لِلتَّعَلُّمِ فَقَطْ، بَلْ كَانَتْ مَسْرَحًا لِقِصَّةٍ تَنْتَظِرُ أَنْ تَبْدَأَ، وَكُلُّ مَمَرٍّ فِيهَا كَانَ يُشْبِهُ طَرِيقًا يَقُودُنِي إِلَى وَجْهٍ أَتَخَيَّلُهُ، وَكُلُّ قَاعَةٍ كَانَتْ تُشْبِهُ بَابًا يُفْتَحُ عَلَى أَمَلٍ جَدِيدٍ.
كَانَ نِهَايَةُ العَامِ الدِّرَاسِيِّ مَسْرَحًا لِامْتِحَانٍ كَبِيرٍ، وَكُلُّ وَرَقَةٍ أَمَامِي كَانَتْ تُشْبِهُ مِرْآةً، تُرِينِي وَجْهَهَا فِي الخَيَالِ، وَتُذَكِّرُنِي بِأَنَّ الحُبَّ هُوَ أَعْظَمُ الاِمْتِحَانَاتِ.
الإِجَازَةُ لَمْ تَكُنْ فَقَطْ فَتْرَةَ رَاحَةٍ، بَلْ كَانَتْ وَعْدًا بِرُؤْيَةِ المَحْبُوبَةِ، وَبِالتَّخْطِيطِ لِمُلاَقَاتِهَا فِي مَدِينَتِهَا، وَبِالأَمَلِ أَنْ يَتَحَوَّلَ الاِنْتِظَارُ إِلَى حُضُورٍ، وَالأَحْلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ.
كَانَتِ الوِجْهَةُ بِالقِطَارِ، وَاللَّهْفَةُ تَسْبِقُ خُطَايَ.
حِينَ وَقَفْتُ أَدُقُّ البَابَ، كُنْتُ أَسْمَعُ دَقَّاتِ قَلْبِي، دُونَ أَنْ تَمْتَدَّ يَدِي لِطَرْقِ البَابِ.
حَانَتْ لَحْظَةُ السَّلَامِ، سَلَامُ مَعْرِفَةٍ، وَعُيُونٌ ضَاحِكَةٌ يُزَيِّنُهَا الكُحْلُ، وَشَعْرٌ مُنْسَابٌ بِلا تَرْتِيبٍ، يُفْصِحُ عَنْ شُحْنَةِ الشَّوْقِ لِلتَّرَقِّي.
وَقَفْتُ أَتَأَمَّلُ حَالِي؛ إِنْ عُدْتُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ، فَهِيَ كَفِيلَةٌ بِالزَّادِ لِمُقْبِلِ الأَيَّامِ.
وَلَكِنِّي وَلَجْتُ الدَّارَ، وَتَوَالَتِ الأَيَّامُ فِي نَسِيجٍ لِرِدَاءِ الحُبِّ، يَتَشَكَّلُ وَيَتَّسِعُ مَعَ كُلِّ نَفَسٍ وَكُلِّ نَظْرَةٍ، حَتَّى صَارَ الحُبُّ مَسْكَنًا، وَالأَيَّامُ أَثْوَابًا تُزَيِّنُهُ.
عَجَبًا
عَجَبًا لِقَلْبٍ يَحْمِلُ ذِكْرَى، وَيَنْسُجُ مِنَ الغِيَابِ حُضُورًا، وَيَجْعَلُ مِنْ لَحْظَةِ لِقَاءٍ زَادًا لِعُمُرٍ بِأَكْمَلِهِ.
عَجَبًا لِلزَّمَانِ كَيْفَ يَتَوَقَّفُ فِي نَبْضَةٍ، وَيَتَّسِعُ فِي نَظْرَةٍ، وَيَتَشَكَّلُ فِي أُنشُودَةٍ تُرَدِّدُهَا الأَيَّامُ.
عَجَبًا لِلْحُبِّ، كَيْفَ يَبْدَأُ بِوَدَاعٍ، وَيَكْتَمِلُ بِلِقَاءٍ، وَيَبْقَى مَفْتُوحًا عَلَى أَمَلٍ لا يَنْطَفِئُ.
الإسكندرية 29 ديسمبر 2025م
وَمِيضُ_ الذِّكْرَى
406
