من صندوق تلميع الأحذية إلى صناديق الاقتراع… كل شيء في الهوى سواء”

بقلم السيد عيد
في زمن صارت فيه العناوين أهم من الأسماء، والشهادات أكثر من العقول، قابلت هذا الصباح خبيرًا من نوع خاص… يجلس على الرصيف لا في مكتب مكيف، ويستخدم الفرشة لا اللابتوب، ويقرأ في جلد الأحذية لا أوراق السي في!
الشمس تصرخ صيفًا، لكنه هناك… دائمًا هناك، على ناصية ميدان المطبعة بدار السلام ، يجلس على كرسي معدني مكسور، وأمامه صندوق خشبي يصلح أن يكون مشهدًا في فيلم أبيض وأسود. لا أحد يهتم به، لكنه يعرف عن الناس ما لا يعرفونه عن أنفسهم… من نعل حذائك يعرف أنت مين!
قلت له صباح الخير، فرد عليّ: “شكل حضرتك رايح تقابل شخصية كبيرة!”
نظرت إلى حذائي باستغراب، ظننت أنني داست على لغم دون أن أدري. لكنه ابتسم بثقة وقال:
“أنا ماسح أحذية… بس تخصصي دقيق: تحليل نفسي بنظام سوبر جلاد، وبخبرة تراكمية على جميع أنواع الجلود!”
من البيادة العسكرية لحذاء الموظف اللي بيجر رجليه، ومن الكوتشي التوكيل لحذاء الأستاذ فتحي اللي معاشه في خبر كان، يقرأ هذا الرجل الحياة كما يقرأ السياسيون برامجهم الانتخابية… نظريًا جدًا.
قال لي:
“ده حذاء راكب عربية ومابيمشيش، وده حذاء واحد بيتمرمط في المواصلات، وده حذاء ساعي بريد قابل كل أنواع أجراس البيوت، وده حذاء موظف حكومي بيشتغل شغل 3 أشخاص ومرتبه مايكفّيش مواصلات.”
ثم انخفض صوته كمن يهمس بسر دولة، وقال بابتسامة فيها مكر سياسي أصيل:
“وبصراحة كده… أيام الانتخابات، بلاقى أحذية غريبة، نضيفة بشكل يخوف! تيجي تلمعها تلاقي صاحبها بيهمس: “خليها لوجه الله، إحنا مترشحين!”، وراهم جيش من الأحذية اللامعة والوعود الألمع! ناس ما بتشوفناش طول السنة، لكن وقت الكاميرات والمقاهي والتصويت، يفتكروا إن ماسح الأحذية مواطن… وله صوت!”
ثم ينظر إلى الأفق نظرة مَن قرأ كثيرًا ولم يُصدّق شيئًا، ويضيف:
“أنا مش ماسح أحذية، أنا أرشيف الأرصفة، كتالوج الناس، ويكيليكس النعال… بس الفرق إني بشتغل بفرشة مش بمؤتمرات صحفية.”
ولأن كل حكيم له خلاصة، ختم لقائي بجملة لا تُنسى:
“قبل ما تمد رجلك، فكر… ماسح الأحذية دا يمكن يكون أفهم من اللي قاعد على الكرسي الجلدي في مكتب المكيف. دا بيلمّع الحذاء، بس غيره بيلمّع الكذب!”