هل تفسد المهرجانات الذوق العام ؟

كتب : جمال حشاد
في السنوات الأخيرة، اجتاحت “أغاني المهرجانات” الساحة الفنية لتصبح حديث الشارع، وعنوانًا دائمًا للجدل على منصات التواصل الاجتماعي، وفي أروقة الإعلام الفنية؛ والنقابات الفنية.
لكن يبقى السؤال المطروح بإلحاح: هل هذه الظاهرة تُفسد الذوق العام؟ أم أنها مجرد شكل جديد من أشكال التعبير الفني الشعبي؟
ما هي المهرجانات؟
“المهرجانات” ليست مهرجانات بالمعنى التقليدي، بل نوع موسيقي جديد انطلق من الأحياء الشعبية، يعتمد على إيقاعات إلكترونية سريعة، وكلمات عامية تلقائية قد تكون صادمة أحيانًا.. انطلقت على يد شباب لا يملكون أدوات الفن الكلاسيكي، لكنهم امتلكوا الشارع، وأصبحوا مؤثرين في ملايين الشباب والمراهقين.
انتشار غير مسبوق
بفضل المنصات الرقمية مثل: اليوتيوب والتيك توك، أصبحت هذه الأغاني تحصد ملايين المشاهدات في وقت قياسي، بل ويتم تشغيلها في الأفراح والمناسبات وحتى في بعض الإعلانات.
وهذا الانتشار طرح علامات استفهام حول أسباب النجاح، وهل هو ناتج عن “جودة فنية” أم “سطحية ثقافية”؟
الجدل المجتمعي.. بين الحرية والمسؤولية
المجتمع منقسم بشدة حول هذه الظاهرة. فهناك من يرى أن المهرجانات:
– فن شعبي نابع من بيئة حقيقية.
– وسيلة للتعبير عن مشكلات وتطلعات الشباب.
– تحمل إيقاعًا عصريًا يناسب جيل اليوم.
– لكن في المقابل، يرى آخرون أنها:
– تروج لألفاظ هابطة وسلوكيات منحطة.
– تُضعف الذوق العام وتُهمش الفن الراقي.
– تؤثر سلبًا على الأطفال والمراهقين.
رأي النقابة والرقابة :
اتخذت نقابة الموسيقيين في مصر عدة قرارات لمنع أو تقنين هذا النوع من الغناء، مطالبة بضرورة الحصول على تصاريح وشهادات فنية.
وبرغم منع بعض الأسماء، إلا أن المهرجانات ما زالت تنتشر، تحت أسماء جديدة أو على منصات خارج الرقابة.
هل يوجد مهرجان “جيد”؟
بعض المطربين الشباب حاولوا الدمج بين الطابع الشعبي وجودة الكلمة، وظهر ذلك في بعض الأعمال التي تم إنتاجها بتقنيات عالية وكلمات راقية.
وهنا يظهر سؤال مهم: لماذا لا يتم احتواء هذه الطاقة الشبابية، وتوجيهها بدلًا من محاربتها؟
الذوق العام.. مسؤولية من؟
“الذوق العام” لا يتشكل من الأغاني فقط، بل هو نتاج أسرة، ومدرسة، وإعلام، وثقافة مجتمعية كاملة.
فمحاربة المهرجانات وحدها لن تعيد الذوق الراقي، إن لم تترافق مع إحياء للفنون الجميلة، وتعليم موسيقي حقيقي، وإعلام واعٍ يعرض البدائل المحترمة.
أغاني المهرجانات ليست خيرًا مطلقًا ولا شرًا خالصًا، بل هي مرآة لما يحدث في المجتمع.
فبدلًا من الاكتفاء بالمنع أو التهجم، لنجرب أن نرتقي بالمحتوى، ونزرع في أجيالنا القادمة حب الفن الأصيل، ليعود الغناء المصري كما كان، قيمة.. ومعنى.. وذوق رفيع.
من المسؤول عن صعود هذا النوع من الغناء؟
في الواقع، لا يمكن إلقاء اللوم على مؤدي المهرجانات وحدهم، فصعود هذا النوع من الموسيقى لم يكن ليتحقق لولا وجود طلب جماهيري كبير.
الشباب – خاصة في المناطق الشعبية – وجدوا في هذا اللون من الفن لغة قريبة منهم، تعبر عن واقعهم وهمومهم، بل وتمنحهم إحساسًا بالهوية والانتماء.
من جهة أخرى، يُتهم الإعلام والتسويق التجاري بالمساهمة في ضخ هذه النوعية من الأغاني، بحثًا عن الربح السريع، على حساب القيمة الفنية والمحتوى الراقي.
التأثير على الأطفال والمراهقين
واحدة من أخطر نتائج انتشار المهرجانات هي التأثير القوي على الأطفال والمراهقين، سواء من خلال الألفاظ غير اللائقة، أو الصور الذهنية المرتبطة بالعنف واللامسؤولية والاستهزاء بالقيم.
لقد أصبحت هذه الأغاني جزءًا من الثقافة اليومية للأطفال، تُردد في المدارس والشوارع، دون إدراك للرسائل التي تحملها.
وهنا، لا بد من تدخل تربوي من الأسرة والمدرسة، لخلق وعي نقدي تجاه المحتوى الذي يُستهلك بشكل عشوائي.
الحل ليس في المنع بل في “التوجيه”
تجربة منع المهرجانات بشكل كامل أثبتت فشلها، إذ ظهرت النسخ الجديدة على الإنترنت دون توقف، بل وتضاعفت شعبيتها.
لكن يمكن اعتماد منهج بديل، يقوم على:
1. تقنين الأداء الفني ووضع معايير للكلمة والصوت.
2. فتح المسار أمام المواهب الشابة التي ترغب في تطوير نفسها فنيًا.
3. تقديم بدائل فنية راقية وجذابة لا تقل جودة أو إيقاعًا، وتخاطب نفس الفئة.
نحو مشهد فني متوازن
الموسيقى لغة المجتمعات، وإذا أردنا أن نسمع ما هو جميل، فعلينا أن نُعد أذنًا تعرف التمييز، وذوقًا يرفض الإسفاف.
المهرجانات ليست “عدوًا” بقدر ما هي نتاج لفراغ فني وتعليمي وثقافي، وبالتالي فإن الطريق لاستعادة الذوق العام يبدأ من دعم الفن الجاد، وإعادة الاعتبار لقيمة الكلمة والصوت والصورة.
فلنمنح الأجي
ال القادمة بيئة فنية صحية، يتعايش فيها التراث الشعبي مع الحداثة، دون أن يُفسد أحدهما الآخر.