بقلم : جمال حشاد
يُعدّ الجيل Z، المولود تقريبًا بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أول جيل يعيش طفولته ومراهقته بالكامل داخل البيئة الرقمية. إنه جيل لا يتذكّر عالمًا من دون الإنترنت أو الهواتف الذكية أو وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الواقع الجديد لم يغيّر فقط أنماط التواصل والاستهلاك، بل بدأ يُعيد تشكيل مفهوم السياسة ذاته، ويطرح سؤالًا جوهريًا:
هل نحن على أعتاب ولادة ديمقراطية رقمية جديدة يقودها هذا الجيل؟
أولًا: من الشارع إلى الشاشة – تحوّل أدوات الفعل السياسي:
في العقود السابقة، كان الفعل السياسي مرتبطًا بالساحات، الأحزاب، والمنابر التقليدية. أمّا اليوم، فقد تحوّلت المنصات الرقمية إلى ساحات افتراضية للنقاش، والاحتجاج، وصنع الرأي العام.
يستخدم الجيل Z هاشتاغات تويتر ومقاطع تيك توك كأدوات ضغط سياسي.
أصبحت الحملات الإلكترونية قادرة على إسقاط قوانين أو تغيير مواقف حكومية في بعض الدول الديمقراطية.
حتى في الأنظمة المغلقة، صار الفضاء الرقمي منفذًا للتعبير وكشف الفساد، وإن بحدود.
لكن هذا التحول لا يعني فقط تحديث الوسيلة؛ إنه يعيد تعريف السياسة ذاتها، من مشروع أيديولوجي طويل المدى إلى تفاعل فوري قائم على القضايا الآنية.
ثانيًا: الوعي الجديد – القيم بدل الإيديولوجيات
الجيل Z لا ينتمي بوضوح إلى اليمين أو اليسار التقليديين. إنهم أكثر انشغالًا بـ القيم مثل العدالة المناخية، المساواة الجندرية، الحقوق الرقمية، والشفافية.
يرفض الجيل Z الشعارات الكبيرة التي لا تُترجم إلى أفعال.
لا يثق كثيرًا بالأحزاب، لكنه يؤمن بقدرة الفرد والجماعة الرقمية على التغيير.
يرى السياسة كمسؤولية جماعية وليست احتكارًا للنخب.
هذا الوعي القيمي يجعل السياسة عندهم أقرب إلى النشاط الاجتماعي منها إلى الصراع الحزبي.
ثالثًا: الديمقراطية الرقمية – بين الوهم والإمكان:
يتحدث كثير من المفكرين عن “الديمقراطية الرقمية” باعتبارها مستقبل الحكم: مواطنون متصلون، قرارات تشاركية عبر المنصات، شفافية مطلقة في إدارة الدولة.
لكن هل هذا ممكن فعلًا؟
الإيجابيات:
مشاركة أوسع في صنع القرار.
وصول مباشر بين المواطن وصاحب القرار.
محاسبة فورية عبر الإعلام الرقمي.
السلبيات:
خطر التلاعب بالمعلومات والأخبار المضلّلة.
هيمنة الخوارزميات على تشكيل الرأي العام.
تحوّل النقاش السياسي إلى صراع هوية أكثر من كونه حوارًا عقلانيًا.
بعبارة أخرى، الديمقراطية الرقمية ليست خلاصًا سحريًا، بل ساحة جديدة للصراع بين الحرية والسيطرة.
رابعًا: من التأثير إلى التغيير – التحدي الأكبر:
صحيح أن الجيل Z يمتلك قدرة هائلة على التأثير، لكن التحوّل إلى تغيير سياسي فعلي يتطلب مؤسسات تستوعب هذا الحراك.
المنصات تُحرّك الرأي العام، لكنها لا تكتب القوانين.
الحماس الرقمي يحتاج إلى بناء تنظيمي مستدام.
السياسة الرقمية لا تُغني عن السياسة الواقعية.
لذلك، فإن الديمقراطية الرقمية لن تُولد إلا حين ينجح هذا الجيل في دمج التقنية بالعمل المؤسسي، لا الاكتفاء بالاحتجاج الإلكتروني.
الجيل Z لا يكرر تاريخ الأجيال السابقة، بل يُعيد اختراع العلاقة بين الفرد والسياسة. قد لا يحمل رايات الأيديولوجيا القديمة، لكنه يحمل حسًّا نقديًا عاليًا، وشغفًا بالتغيير، ورفضًا للجمود.
إن الديمقراطية الرقمية ليست حلمًا بعيدًا، بل احتمال تاريخي يتوقف على وعي هذا الجيل وقدرته على تحويل التفاعل إلى فِعل.
ربما لا تكون “ديمقراطية صناديق الاقتراع” كافية بعد الآن، بل نحتاج إلى ديمقراطية الخوارزميات والوعي الشبكي — ديمقراطية تُدار بالبيانات، لكنها تُحكم بالقيم.
