ديني

المفتي المجنون

د. فرج العادلي

كان الصحابة الكرام يكرهون الفتوى ويغتمون غما شديدا إذا طُلبت منهم
فهذا عبدالرحمن ابن أبي ليلى يقول: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- (في المسجد) فما كان منهم محدث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ((ولا مفت إلا أخاه كفاه الفتيا))

فكان الواحد منهم وهو صحابي جليل تعلم لدى سيد الخلق _صلى الله عليه وسلم_ وقلبه مختار من الله تعالى، وأعلم المسلمين بالوحي الشريف، ومع ذلك كان يغتم غما شديدا إذا اختاره شخصٌ ما ليفتيه في مسألة (مع علمه بها)، وكان يحب أن يذهب لغيره، بل ربما يظل كل واحدٍ منهم _رضوان الله عليهم _ يرسل المستفتي لغيره من الصحابة ال ١٢٠ حتى يأتي للأول مرة ثانية. تخيل. كل واحد يرسله للثاني وهكذا.

وكان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه إذا سئل زحف بظهره حتى التصق بجدار حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم يعيد السؤال بصوت مرتفع والإجابة كذلك، حتى تسمعه أم المؤمنين رضي الله عنها فتقره على الفتوى أو تصوبها له.

وفي يوم كان يجلس هو وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهم خلف باب حجرتها رضي الله عنها يتعلمان منها، فجاء سائل يسأل ابن عباس-رضي الله عنهما- ( بعد أن أرسله له بعض الصحابة الكرام كما هي العادة) فالتفت لسيدنا أبي هريرة وقال له هذه معضلة! أي لا يستطيعها ابن عباس! (تواضعا طبعا) فافتنا يا أبا هريرة وكلاهما ينتظر ردّ أم المؤمنين إن كان هناك خطأ. فقلت ياالله
سائل يسأل صحابيا فيرسله لابن عباس، وابن عباس يحيلها لأبي هريرة وأبو هريرة يجيب وينتظر أم المومنين كي تصوب له أو تقره على فتواه، بالله تأمل.

وكان الأعمش-رحمه الله- يحيل على أبي حنيفة-رحمه الله-، وهو تلميذه!

وكان مالك-رحمه الله- يقول في بعض المسائل: لا أدري. وإذا استغرب الرجل المستفتي عدم علمه بالمسألة، قال له وأبلغ من وراءك أن مالكا لا يدري.
وكان ابن عيينه- رحمه الله- لا يفتي في الطلاق، ويقول مستعظما للأمر ومن له بهذا
؟! أي من يتجرأ على أن يفتي في الفروج حِلًا وحرمه.

وكان أحمد بن حنبل _رحمه الله_ إذا تردد في مسألة يقول لا أدري، اذهب وسل العلماء !

ونحن اليوم نفتي ونتكلم في أمور العامة والخاصة، بل بلغ بأحدنا أنه لا يريد أن يسأل الناسُ أحدا غيره؛ لأنه العلم الأوحد والبحر المحيط الذي لا ساحل له من وجهة نظر نفسه طبعا، بل تراه يقدح بطريق مباشر وغير مباشر في كل المفتين سواه. تخيل؟! الفارق بين الصحابة وبعض مشايخ ودعاة العصر؟! العكس تماما

وهذا يذكرني بالطبيب الذي يجرح غيره ليطلبه الناس وحده للعلاج، حتى إن بعض الأطباء (وهي حادثة حقيقية) رأى عملية في عيادته، فقال لصاحبها: هل هذه غرز خاطها لك مُنجّدٌ أم طبيب وضحك بصوت مرتفع ( يسخر من الغرز) فقال له المريض: حضرتك من خاطها لي ! فقال أين ومتى؟! فقال في المكان الفلاني وسمى له مستشفى جمعية خيرية كان يذهب إليها، انظر كيف عاب نفسه لحرصه الشديد على التقليل من الغير.

والعجيب أن بعض المتصدرين للفتوى يصنعون ذلك بل يعيبون فتاوى من علموهم وربوهم أحيانا! ما الذي تستفيده من الفتوى، وكيف تفتي في كل شيء ؟! والفتوى لا تقتصر على الفتاوى الدينية، فهناك مفتون في الطب والسياسة والتاريخ والصناعات وكله بغير علم، ويستحي أحدهم أن يقول لا أدري حتى وإن سأله شخص ما عن شارع ما لا يعرفه اجتهد في الفتوى وأضل السائل سبيله!

روى الإمام مالك.. عن ابن عباس _رضي الله عنهما_أنه قال: إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه (لمجنون) هذا هو المفتي المجنون

وقال سحنون_ رحمه الله_ أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه.

قال ابن القيم رحمه الله «الرجل يكثر الفتوى لقلة علمه، أو لغزارته وسعته، فإن من لم يعلم تكلم في كل شيء، ومن تبحر أفتى أيضا في كثيرٍ من الفنون» بتصرف

والمتبحرون أندر من الكبريت الأحمر، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى