حتى لا تلعنا الأجيال القادمة

د. فرج العادلي
كلما قرأت مسألةً للإمام الليث بن سعد-رضي الله عنه- من المسائل المنثورة في كتب المذاهب الأخرى، وأتوقف عند استدلاله، وتعليله، وتحليله، ومعقوله…أندهش ثم أتذكر قول- ناصر السنة الإمام محمد بن إدريس الشافعي- رضي الله عنه- كان الليث أفقه من مالك! ولك أن تتخيل أن مالكا _رضي الله عنه- هو الذي نُسبَ إليه مذهبُ أهل المدينة كله، وسُميت علومهم، وسننهم، وأقوالهم واجتهاداتهم، وعاداتهم من الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والعلماء السبعين باسمه _رضي الله عنه_، فصار يُقال مذهب مالكٍ! وهو مذهب أهل المدينة أصلا إلا أنه أُختُصرَ في شخص الإمام، ومع ذلك كله كما أسلفت كان يقول عنه شمس الدنيا الشافعي: إن الليثَ كان أفقه من مالك؟!
فتأمل هذه الترسانة العلمية العظيمة، وهذا الجبل الأشم الذي طاول السُحب فاستطال عليها، ثم نفخ فيه الروح فصار يمشي ويُدرّس ويعلّم ويفتي للمصريين وغيرهم ممن ضربوا أكباد الأبل ورحلوا إليه من أصقاع الأرض، هذا البحر الخضم الذي لا ساحل له، والنجم العالي الذي لا يُرى إلا نوره من بعيد… ثم أستفيق من سُكري المحمود هذا على كلمة الشافعي-رضي الله عنه- أيضا بأن تلامذته ضيعوه، أو لم يقوموا به، ساعتها ينتابُني شعورٌ غريب، ومرارة في الحلق وغصة كشوك السعدان المغموس في زلال الحنضل المنقوع، ولا يزال الغيظ يأكل القلب كلما مررت بشيء من طرف الإمام الليث إمام أهل مصر وعالمهم ومفتيهم.
ولم يكن قدره عند العلم الشرعي فقط، بل كان عقليةً كبيرةً في الإدارة والسياسة وفنون الملك، لدرجة أنه طُلب لتولي إمارة مصر، تخيل، وليس قاضيا بل أميرٌ لكنه رفض، فعُيّن مستشارا للوالي رغما عنه، لا يُقطع أمرٌ دونه!
وبلغ من إخلاصه أنه كان يرسل مالا لخصمه الأول والأوحد مالك بن أنس حتى لا يحتاج لأحدٍ!!
وكان بينه وبين مالكٍ مناظرات ورقية تذهب وتجيء مع الرسل الحجاج، وفي يوم أرسل للإمام مالك رسالةً يسأله سؤالا، فشعر مالك أنه لا يناظر في هذه المسألة، بل من ورعه أرسل يستفتيه حقا وهو خصمه! وهذا يُعد نصرا عظيما لكن الإمام مالك رضي الله عنه بكى بكاءً مرّا وقال له في رساله أما بعد فإنك والله إمام هدى والجواب ما قام عندك أو مستقر لديك، يالها من حالة عجيبة تفيضا نورا وإخلاصا وتجردا وحبا وودا لو قسم على علماء الأرض اليوم لوسعهم…(خرجنا واستطردنا سامحونا أعود فأقول)
حتى لا تأتي الأجيال القادمة وتلعنا علينا أن ندوّن كل العلوم النافعة من العلماء الموهوبين والصالحين في كل المجالات، لأن هذه نفائس وفرائد وهبات ملكٌ للبشرية لا يجوز لجيل الاستفادة منها ثم يتركها تضيع، ولا ينتفع بها من بعدنا.
والله المستعان