الأسرة والطفل

التحرر من ظلال الذات: فلسفة أفلاطون في مرآة العلاج النفسي

بقلم/ سالي جابر – أخصائية نفسية 

في قلب كهفٍ مظلم، وُلد الإنسان وتربّى، لا يعرف من العالم سوى ظلالٍ تتحرك أمامه على جدارٍ صامت. يظنها الحقيقة، ويؤمن أنها كل ما في الوجود. ولكن، ماذا لو كانت تلك الظلال مجرد أوهام؟ ماذا لو كانت الحقيقة خارج الكهف، تنتظر من يجرؤ على مواجهتها؟ هكذا صوّر أفلاطون في “أسطورة الكهف” صراع الإنسان بين الجهل والمعرفة، بين الوهم والحقيقة، بين أسر الحواس وحرية العقل.

تصوّر لوحة الكهف عند أفلاطون واقعًا رمزيًا للوجود الإنساني، حيث يعيش معظم الناس في حالة من “الجهل المركب”، أي أنهم لا يعلمون أنهم لا يعلمون. الأسرى في الكهف مقيّدون منذ الولادة، لا يرون إلا الظلال التي تخلقها النار خلفهم، فيعتقدون أنها الحقيقة المطلقة. وفي هذا المشهد، يرمز الكهف إلى العالم الحسي، بينما ترمز الظلال إلى المعرفة السطحية الناتجة عن الحواس وحدها.

خروج أحد الأسرى من الكهف هو لحظة ولادة العقل. يبدأ بمواجهة الألم؛ ألم الانفصال عن المألوف، وألم الصدمة من ضوء الحقيقة. لكنه كلما ابتعد عن الظلام، اتضحت له معالم الواقع، حتى يصل إلى ضوء الشمس، رمز الخير الأسمى والمعرفة الكاملة عند أفلاطون.

لكن المأساة الحقيقية لا تكمن في الجهل فقط، بل في رفض الحقيقة بعد اكتشافها. فعندما يعود الفيلسوف إلى الكهف ليحرر رفاقه، يواجه السخرية والعداء. هذا الصراع يُجسّد مأساة المصلحين والمفكرين عبر التاريخ: حين يُواجه النور بالإنكار، ويُستقبل العقل بالخوف.

تُشبه هذه الصورة ما يحدث داخل النفس البشرية، حين تظل سجينة معتقدات مشوهة، وأفكار مغلوطة عن الذات والعالم.

في عالم العلاج النفسي، نلتقي بمن عاشوا سنوات داخل “كهوفهم الخاصة”، لا يرون إلا ظلال الألم، والرفض، والخوف، والعجز.

ولكن، هل يمكن للإنسان أن يخرج من هذا الكهف؟

وهل يستطيع عقله أن يحتمل نور الحقيقة حين يراه؟

الربط بين مجاز الكهف والعلاج:

1- الكهف كمكان نفسي مغلق:

يمثل الكهف رمزًا للمعتقدات السلبية عن الذات: “أنا ضعيف”، “أنا غير محبوب”، “أنا فاشل”.

كما يرمز إلى تجارب الطفولة المبكرة التي لم تُفهم أو تُعالج، فظلت تؤثر في الفرد دون وعي.

2-الظلال كمشوهات معرفية:

الظلال هي التفسيرات السطحية أو المؤلمة التي يكررها العقل: “أبي لم يكن يحتضنني، إذًا أنا لا أستحق الحب.”

“صديقي لم يرد على رسائلي، إذًا هو يكرهني.”

في العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، تُسمى هذه الأخطاء المعرفية (مثل التعميم، التفكير الكارثي، الشخصنة).

3- الخروج من الكهف كعملية علاجية:

هنا تبدأ الرحلة مع الأخصائي: تفكيك القيود التي كبّلت إدراك الشخص.

المواجهة الأولى تكون موجعة: مثلما تألم السجين حين خرج من الكهف، يتألم المراجع حين يرى أن “الواقع مختلف عمّا كان يظنه”.

هذه هي المرحلة الانتقالية في العلاج: مقاومة، إنكار، ثم وعي ونمو.

4- نور الشمس = الحقيقة النفسية:

الحقيقة لا تعني “نهاية المعاناة”، بل بداية الفهم: “أنا عشت تجربة رفض، لكنها لا تعني أنني بلا قيمة”.

وهنا يظهر دور إعادة البناء المعرفي: استبدال الظلال القديمة بنور الوعي الجديد.

5-العودة إلى الكهف: جلسات الانتكاس والمقاومة:

كثير من المرضى يعودون إلى أنماطهم القديمة، أو يواجهون مقاومة داخلية. وهذا طبيعي.

أفلاطون يُذكّرنا أن العودة ليست فشلًا، بل جزء من الرحلة.

العلاج يُساعد الشخص على أن يرى الظلال دون أن يصدقها.

لوحة الكهف ليست قصة عن فلسفة قديمة، بل عن كل إنسان قرر أن يبدأ رحلة علاجية، خرج من سجن إدراكه، وواجه ذاته بصدق.

الخروج من الكهف لا يعني أن الحياة أصبحت مثالية، بل أن العقل أصبح حرًا في أن يرى، يختار، ويعيش.

وعليك الآن أن تحدد ما هي الكهوف التي تعيش فيها؟ وما هي افكارك السلبية التي تجعلك تقيم في الظلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى