بقلم السيد عيد
لم يكن الحب جريمة في زمن الفراعنة، لكنه لم يكن يُقال جهراً. كان يختبئ بين سطور الهيروغليف، يتسلل مع نسمات البخور، ويهمس في آذان التماثيل بصوتٍ خفيض. كان سرًّا مُعطّراً، لا يحمله إلا قلبان التقيا صدفةً في حضرة “حتحور”، ربة الحب والجمال.
هناك، عند أعتاب معبدٍ تغفو عليه الشمس كل مساء، رأيتها. كاهنة شابة تُدعى “نيفر”، كانت تسقي الزهور المقدسة كمن يُرضي الآلهة، تُرتّل التعاويذ بصوت يشبه غناء النيل حين يهدأ. كانت عيناها بلون العقيق القديم، وفي مشيتها خفة الغيم قبل المطر.
أما أنا، فمجرد كاتب من طين الأرض، أدوّن ما يُملى عليّ، وأحمل أوراق البردي في عباءة باهتة. كنت أعلم أن بيننا نهرًا من الطبقات والحدود، لكني كنت أعبُر ذلك النهر كل يوم بوردة لوتس واحدة… أضعها حيث تراها، فترفع نظرها، وتكفيني نظرة.
في إحدى الليالي، كانت تمسح الغبار عن النقوش، ليس ككاهنة، بل كامرأة تبحث عن ملامحها بين السطور. اقتربت منها، وهمست كما يهمس من يوشك أن يرتكب خطيئة مقدّسة:
– أتحبين القصص التي تُروى على الجدران؟
أجابتني وعيناها لا تتركان الجدار:
– لا… أبحث عن قصة لم تُنقش بعد.
تلك كانت دعوتها. فقلت، دون تفكير:
– أيمكنني أن أكون كاتبها؟
منذ تلك اللحظة، صرنا نكتب سويًا، لا بالحبر، بل بالحضور. أُهديها جملاً صغيرة، تخبّئها في قلبها كما تُخبّئ الكاهنات التعاويذ. كانت ترد عليّ بورقة صغيرة، أو زهرة جديدة، أو دعاء من لغة لا يفهمها سواها.
لكن المعبد كان أضيق من الحب، والكهنة لا يتركون للقلوب حرية الانحناء إلا للآلهة. حُرمنا من الزفاف، لكننا لم نُحرم من الذاكرة. ذات يوم، حين أدركتُ أن النهاية اقتربت، دسست بردية تحت حجرٍ كبير، قرب العمود السابع من ناحية الغرب، وكتبت فيها:
“إلى من يأتي بعدي… إن وجدتَ هذه القصة، فاعلم أن الحبّ مرَّ من هنا، ولم يكن آثمًا.”
وربما، حين تُحطّم الرياح ما لم تحطمه الكهنة، وتتكسر الأعمدة التي ظنّت نفسها خالدة، سيقرأ أحدهم قصتنا… ويفهم.
الحب، يا سيدي، لا يحتاج إذنًا من أحد.
إنه فقط يحتاج قلبين… وجدارًا يخبئ السر.
