مقالات

2اكتوبر 2022.. قهـــــــوة بلـــدي

السيد عيد

عندما كنت صغيراً كان يومي مقسما بين مشاهدة أفلام الكارتون الملونة واللعب والنوم وحلمي آنذاك أن أصبح كالكابتن ماجد، كبرت ومر أربع عقود من حياتي واختلف تقسيم يومي، ما بين العمل والنوم واحتساء القهوة حياتي أشبه بقطار أعمي لايتوقف مهما قابل من عوائق، ولما أصابني الملل وأحسست أن حياتي فاترة ، وأن كل يوم يعيد سابقه ، ترنحت بقدمي وأنا أجر كرسي بيدي ثم سكنت قهوة بلدي في آخر الشارع وسرحت بعقلي مع صورة الست أم كلثوم التي تقبع فوق رأس الأستاذ علي ، وتخيلتها وهي تغني فات الميعاد وكأنه فات الميعاد علي جلوسي علي القهوة بعد بلوغي هذا العمر ،لقد وطأت قدماي القهوة البلدي وإذ بعالم ساحر ملئ بالخفايا التي لا تراها بعينك بل تلمس روحك وقلبك ، اترك نفسك لها فقط ، ستجدها تطفو بروحك الي حيث لا تتخيل ، فإن أتيت لها مهموم ازالت عنك همك ، وإن أتيت لها فرح زادت علي فرحك أضعاف مضاعفه ، وإن أتيت لها منهك مرهق .. تراها ذهبت بك الي حيث تشعر بالراحة والهدوء وراحه البال !!.

انت الأن في حضرة قهوه بلدي !!.

في منتصف القهوة يجلس محمد و احمد وحسين ومدحت مع لعبة الدمينو ، وأتأملهم حينما يغمرني الملل ، وحماسهم ينعكس على قلبي حتى أظن أنهم يلعبون على بطولة العالم ، ومن يفوز كأنه حرر الاقصي ، ورغم أني احترم شغفهم المبالغ فيه وأشفق على المهزوم إلا أن صوت ارتطام قطعة الديمنو بالمنضدة يستفزني ، فصداها يسقط على أذني كمدفع في حرب .

وصوت أحجار النرد تتبعها ضحكة عالية متحشرجة تكشف عن أسنان خربه لتقول بحماسه : 15 يا معلم ..

أو : خشب يا باشا .. ولم أر في مرة جدالاً بينهما كجدال المبتدئين في رمي الزهر .

لقد لفت انتباهي جلوس الكثير من الشباب الذي من المفترض تواجدهم في مدارسهم وأعمالهم ولكن من الواضح للقاصي والداني أنهم من أساطير القهوة ، وتقريباً لا يرحلوا منها أبداً فعلاقة الشاب المصري بالقهوة البلدي، علاقة تاريخية أصيلة، تمزج بين الرغبة والخوف، الرغبة في دخول عالم المقاهي والاستمتاع بممارسة اللا شيء، والخوف من ذلك العالم الغامض. يهرب الطفل الذي شارف على أعتاب المراهقة من مدرسته ليجلس “على القهوة”، ليثبت فقط بجلوسه هناك أنه أصبح رجلاً.

والبعض الآخر يجلس ليهرب من منزله بمشاكله، وآخرون يجلسون لعقد الاجتماعات السياسية أو مناقشة القضايا الأدبية،

بينما أنا جالس أدقق النظر في هذا وذاك واذا برجل يتعدي الخمسين من عمره يتحدث عن الأسعار والغلاء والصحة والتعليم فوقعت كلماته على أذني كتغريد عصفور للحكومة ، وتقوس وجهي وهطل على ملامحي الخوف ، ولم يعد بوسعي أن أتركه، صدقت المقولة أن القهوة شبه السياسة طعمها مر مهما أغرقتها سكر ، لأجده ينتبه لي ويقول

ازيك يا أستاذنا .

الحمد لله .

تأملت فنجان القهوة الراقد على المنضدة أمامه وتفاعلت عيني مع بخار الماء وهو يتلوى صاعداً إلى السقف ثم أردفت متردداً :

هرشت برأسي واحمر وجهي خجلاً ثم التفت حيث القهوجي وبصوت أجش : واحد قهوة يا عبودة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى