كتب… أحمد رشدى
كان يراها كل يوم تمر أمامه كنسمةٍ معتادة لا تثير دهشة ولا تشعل شعورًا كان يراها تؤدي واجباتها في صمتٍ جميل يختلط فيه التعب بالعطاء فلا يسمع أنينها ولا يرى في عينيها سوى لهفةٍ على راحته كانت كظلّه تسبقه إلى حاجاته وتخشى عليه من نسمةٍ باردة أو جرحٍ في قلب الكلام لكنه لم يكن يرى فيها سوى واجبٍ مفروض ووجودٍ مألوف لا يثير الامتنان
كانت الأيام تمضي وهو يتأفف من صمتها حينًا ومن كلامها حينًا آخر لا يرضى عن طهوها ولا عن ترتيب بيتٍ جمعهما ولا عن لمسةٍ صنعت دفئه ولم يشعر أنها كانت هي السند حين تعبت روحه وأنها كانت هي النور حين أظلمت همومه
ثم غابت فجأة… لم يعد صدى خطواتها في الممرات ولم تعد رائحة القهوة توقظه ولم يعد في البيت ضحكةٌ تتسلل بين أركانه شعر بالفراغ يسكن جدرانه وبالليل يطول بلا نجمةٍ تؤنسه وبالقلب يتيه بلا دعائها ولا دفء يديها عند الفجر أدرك كم كانت الحياة صامتةً دونها أدرك أن كل ما كان يتأفف منه كان هو المعنى الحقيقي للسكينة
بحث عنها في كل ركنٍ من البيت في تفاصيلٍ لم يكن يلتفت إليها من قبل في الكوب الذي كانت تضعه بجانبه وفي الوسادة التي كانت ترتبها برفق شعر أن أنفاسها كانت هي النبض الذي يعطي الحياة معنى وأن غيابها كان صفعة القدر ليوقظه من غفلته
حين عادت بعد الغياب لم يقل شيئًا لكن عيناه قالت كل شيء انحنى نحوها بصمتٍ يشبه الاعتذار ومد يده المرتعشة ليمسك يدها كمن يخاف أن تضيع منه من جديد عندها فقط عرف أن الحب ليس كلماتٍ تُقال بل حضورٌ يُشعرنا بالطمأنينة وأن الزوجة ليست خادمةً للبيت بل روحًا له
في غيابها تعلم أن المرأة حين تحب تُفني نفسها بلا انتظارٍ لمقابل وأن أكثر الرجال لا يرون الجمال إلا حين يُفقد وأن أجمل الشكر ليس في الكلام بل في نظرةٍ حانية ويدٍ تمتد بالعطف والامتنان
