بقلم السيد عيد
دخلت القهوة البلدي متأخر كعادتي، أحمل معي حقيبة فيها أوراق، وملامح فيها تعب السنين.
رحّب بي عبودة بابتسامته المعتادة:
– “واحد قهوة مظبوطة يا أستاذنا؟”
قلت له وأنا أتنهد:
– “مظبوطة يا عبودة… بس الحياة نفسها مش مظبوطة!”
جلست على الكرسي الخشبي المعتاد، ذاك الذي صارت رجله تهتز كلما جلست عليه، كأنه يشتكي منّي أو من الأيام، لا أعرف من فينا المكسور أكثر.
أخرج عبودة فنجان القهوة، وضعه أمامي باحترام يليق بشيخ طريقة، ثم همس بخبث لطيف:
– “النهارده القهوة على الحساب القديم.”
ضحكت وقلت له:
– “يعني لسه عندي رصيد في الحياة!”
نظرت حولي.
محمد وأحمد وحسين ما زالوا يلعبون الدومينو بنفس الحماس وكأنهم ينتقمون من الزمن.
كل مرة يفوز فيها واحد، يضرب على الطاولة بقوة، فتتساقط فتات الذكريات على الأرض.
أما المهزوم فينادي عبودة بنبرة المتآمر:
– “هات شيشة تفاح… يمكن الحظ يرجع!”
في الركن الآخر يجلس عم حسين، نفس الرجل اللي كان بيتكلم عن الأسعار في الأسبوع اللي فات.
المرة دي صوته كان أعلى من بخار القهوة، يقول بحرقة العالم الخبير:
– “العيشة بقت نار، يا جدعان!”
فيرد عليه شاب من الجيل الجديد وهو ماسك الموبايل:
– “ولا يهمك يا عم حسين… أنا عامل صفحة على فيسبوك بنفضفض فيها عن الغلاء!”
ضحك عم حسين وقال له:
– “يعني بدل ما نشتغل… نكتب!”
فقلت في نفسي:
جيل بيحارب الواقع بالبوستات… ويكسب لايكات بدل اللقمات.
تسللت نظراتي إلى الكرسي الفاضي المقابل لي…
ذلك الكرسي الذي كان يجلس عليه صديقي القديم “رمزي”، قبل أن يسافر بحثاً عن وطن آخر لا يشرب فيه القهوة على نَفَس طويل.
من يومها، والكرسي ده بقى شاهد صامت على غياب كل اللي راحوا…
اللي سافر، واللي تعب، واللي قعد في بيته مستني فرجة ربنا.
سمعت صوت عبودة من بعيد يقول:
– “أستاذ سيد ، أزوّدلك وشّ القهوة؟”
قلت له بابتسامة حزينة:
– “زوّد يا عبودة… يمكن الوش يرجع بدل اللي راح.”
ضحك عبودة وهو يمسح الطاولة بخرقة عمرها أطول من حكومتنا، وقال:
– “القهوة يا أستاذ، زي الدنيا… اللي ما يعرفش يشربها على مهله، تتحرق في حلقه!”
أخذت رشفة، وسرحت في البخار الطالع كأنه أحلام بتتبخر.
قلت في سري:
آه يا دنيا… كل ما نفكر نرتاح، تفتكرينا بالقسط اللي باقي!
وكتبت على أجندة أمامي:
> “كلنا في القهوة، وكل واحد بيدوّر على راحته…
واحد في دخان شيشة، واحد في ورق دومينو،
وواحد في فنجان قهوة بيحاول يدوّب فيه وجعه.”
نهضت ببطء، وضعت النقود على الطاولة، وقلت لعبودة:
– “احسب يا عبودة.”
قال وهو يضحك:
– “ما تحسبش يا أستاذ… دي القهوة اللي بتحسبنا كل يوم!”
خرجت وأنا أتمتم:
سبحان الله… حتى القهوة البلدي فيها سياسة، بس طعمها أحلى من السياسة كلها.
