د.نادي شلقامي
في عصر باتت فيه الشاشات نافذتنا الوحيدة على العالم، وغدا فيه المحتوى الرقمي الموجه لأطفالنا أكثر تنوعاً وغموضاً، تتسلل المخاطر خفية إلى عقول صغارنا. لم تعد ألعاب الفيديو العنيفة وأفلام الأكشن والرعب مجرد وسائل ترفيه عابرة، بل تحولت إلى محرضات سلوكية، ومؤثرات نفسية تترك بصمات عميقة على التكوين العقلي والجسدي للأطفال والمراهقين. وبين تفجير افتراضي وصرخة رعب مصطنعة، تتشكل ملامح جيل قد يعاني في صمته من آثار هذه الجرعات المتزايدة من العنف والخوف. يستعرض هذا التقرير تحليلاً دقيقاً ومفصلاً للأبعاد السلبية والوخيمة لهذه المواد الترفيهية، بدءاً من العدوانية والاضطرابات النفسية وصولاً إلى المشاكل الصحية والاجتماعية.”
أولاً: التأثيرات النفسية والسلوكية
زيادة السلوك العدواني والعنف (خاصة من الألعاب وأفلام الأكشن):
1– محاكاة العنف: يتعرض الأطفال والمراهقون بشكل متكرر لمشاهد القتل، الضرب، والتدمير، مما قد يجعلهم يرون هذا السلوك كأمر طبيعي ومقبول لحل المشكلات.
2- فقدان التعاطف: قد يقل حساسيتهم تجاه الألم والمعاناة البشرية نتيجة التكرار، مما يؤدي إلى “تبلّد المشاعر” تجاه العنف.
3-التنمر الإلكتروني واللفظي: بعض الألعاب التنافسية تشتمل على لغة بذيئة وسلوكيات تنمرية بين اللاعبين، يكتسبها الطفل ويطبقها في حياته الواقعية.
4 – صعوبة التمييز بين الخيال والواقع: الأطفال، خاصة صغار السن، قد يجدون صعوبة في الفصل بين العنف الخيالي في اللعبة/الفيلم والحياة الواقعية، مما يدفعهم لتقليد السلوكيات الخطرة.
5- اضطرابات القلق والخوف والرهاب (خاصة من أفلام الرعب):
5-1– الخوف المستمر: مشاهد الرعب والصدمات البصرية والسمعية قد تسبب لهم قلقاً واضطرابات خوف (فوبيا) مزمنة، مثل الخوف من الظلام أو البقاء وحيداً.
5-2– الكوابيس واضطرابات النوم: التفكير المستمر بالمشاهد المرعبة قد يسبب أرقاً وكوابيس متكررة، مما يؤثر على جودة نومهم وراحتهم النفسية والجسدية.
6 -الشخصية المهزوزة: قد تؤدي هذه المشاهد إلى إضعاف الثقة بالنفس وتكوين شخصية مهزوزة غير قادرة على مواجهة المخاوف الواقعية.
7- الانعزال الاجتماعي والانطواء:
أ- الإدمان: الإفراط في اللعب يؤدي إلى إدمان الألعاب الإلكترونية، وهو مرض معترف به من منظمة الصحة العالمية في الحالات الشديدة.
ب-العزلة عن المجتمع: يفضل الطفل قضاء وقته في العالم الافتراضي للعبة على التفاعل الاجتماعي مع الأسرة والأصدقاء في الحياة الواقعية، مما يؤدي إلى ضعف مهارات التواصل الاجتماعي.
ج- ضعف العلاقات الأسرية: تقلل من التواصل الفعال مع الوالدين وباقي أفراد الأسرة، مما يؤدي إلى ضعف الرابطة الأسرية.
د- التأثير على التركيز والتحصيل الدراسي:
1- تشتت الانتباه: متعة الألعاب والتفكير المستمر فيها يؤدي إلى تشتت الانتباه وقلة التركيز في المدرسة أو أثناء أداء الواجبات.
2- تراجع الأداء الأكاديمي: يفضل الطفل اللعب على الدراسة، مما يؤدي إلى تدهور واضح في نتائجه الدراسية.
8- اكتساب قيم خاطئة:
التعرض لمفاهيم مبالغ فيها أو غير مناسبة لسنهم مثل العنف المفرط، الممارسات الجنسية، والألفاظ النابية، التي لا يملك الطفل النضج الكافي لفهمها أو فلترتها.
ثانياً: التأثيرات الجسدية والصحية
1- مشاكل الجهاز العضلي الهيكلي:
أ- آلام الظهر والمفاصل: الجلوس لساعات طويلة في وضعيات خاطئة يسبب آلاماً مزمنة في أسفل الظهر والرقبة.
ب- متلازمة الإجهاد المتكرر (RSI): الإفراط في استخدام اليدين والأصابع على لوحة المفاتيح أو أجهزة التحكم قد يؤدي إلى التهابات في المفاصل أو خدر في اليدين والأصابع.
2- السمنة:
الجلوس لساعات طويلة يحل محل النشاط البدني والحركة وممارسة الرياضة، مما يزيد من احتمالية الإصابة بالسمنة وارتفاع مؤشر كتلة الجسم.
3- مشاكل النظر والعين:
إجهاد العين الرقمي (Digital Eye Strain): التحديق المستمر في الشاشة لفترات طويلة يسبب جفاف العين، احمرارها، وضعفاً في النظر.
4- اضطراب الساعة البيولوجية:
قلة النوم: اللعب أو المشاهدة في وقت متأخر يقلل من ساعات النوم الأساسية، مما يؤثر سلباً على النمو الجسدي والعقلي والوظائف الإدراكية خلال النهار.
5- تأثيرات فسيولوجية (خاصة أفلام الرعب):
مشاهدة الرعب تؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر (مثل الأدرينالين والكورتيزول)، مما يسبب تسارعاً في ضربات القلب، تعرقاً، ارتفاعاً في ضغط الدم، وقد يؤدي في حالات نادرة وحادة إلى نوبات صرع (في حالات المرضى المؤهلين لذلك).
ثالثاً: المخاطر الأمنية والأخلاقية (خاصة الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت)
1- التواصل مع الغرباء:
الألعاب متعددة اللاعبين تتطلب تواصلاً مع أشخاص مجهولين، مما قد يعرض الطفل لخطر الاستمالة (Grooming)، أو التحرش، أو التعرض للغة غير لائقة ومحتوى غير مناسب.
2- مخاطر مالية واقتصادية:
قد يتعرض الطفل للغش أو الاحتيال المالي، أو يفرط في إنفاق أموال حقيقية على المشتريات داخل اللعبة دون إدراك لعواقب ذلك.
3- انتهاك الخصوصية:
بعض الألعاب والتطبيقات تجمع بيانات شخصية عن الطفل لأغراض التسويق أو غيرها، مما يعرض خصوصيته للخطر.
“في الختام، يتضح أن التعرض المفرط والمبكر للألعاب الإلكترونية العنيفة وأفلام الأكشن والرعب لا يعد خطأً تربوياً عابراً، بل يمثل تهديداً متعدد الأوجه يطال النمو النفسي والاجتماعي والجسدي لأطفالنا. لقد كشفت المشاهدات المطولة عن علاقة واضحة بين هذا المحتوى وبين زيادة السلوك العدواني، والانعزال الاجتماعي، واضطرابات النوم والقلق المزمن. إنّ حماية صغار السن من هذه التأثيرات تتطلب يقظة لا تتوقف عند المراقبة فحسب، بل تمتد إلى التوجيه الواعي وتوفير بدائل صحية وإيجابية. إن المسؤولية مشتركة؛ تبدأ من الأسرة بوضع قواعد صارمة للوقت والمحتوى، وتمتد إلى المؤسسات التربوية والمجتمع لوضع خطوط حمراء واضحة، لضمان نشأة جيل سليم يتمتع بتوازن نفسي بعيداً عن وهم الشاشات.”
