قصة قصيرة
بقلم د.نادي شلقامي
في قلب مدينة “الأمل”، حيث تتشابك خيوط الحياة بين الثراء والبساطة، عاش رجلان متجاوران يمثلان طرفي نقيض في فلسفة الوجود. الأول، “سالم”، تاجر مزدهر، اتخذ من حسن المظهر الاجتماعي قناعًا يخفي وراءه روحًا متقلبة تعج بالشكوى والتذمر. والثاني، “عمر”، نجار متواضع، لكنه كان يمتلك أغنى ما في الدنيا: قلبًا سليمًا يفيض بالرضا والتفاؤل. كانت الحياة بينهما هادئة ظاهريًا، كسطح ماء ساكن. لكن الأقدار كانت تعد اختبارًا عظيمًا، ضغطًا كفيلًا بأن يهز الأوعية ويكشف حقيقة ما تحتويه النفوس. فماذا سيحدث عندما يضرب الأزمة هذا المشهد الهادئ، وهل ستصمد قشور الثراء أمام حقيقة الجوهر الداخلي؟
كان عمر يرى الجمال في أبسط الأشياء. يرى في الخشب الذي يعمل به إبداعًا، وفي شروق الشمس وعدًا جديدًا، وفي ضحكة طفل سببًا للسعادة. كان متسامحًا، يقدم المساعدة لمن حوله دون انتظار مقابل، ولا يحمل ضغينة لأحد.
ذات يوم، انتشر وباء غريب أثر على تجارة سالم بشكل كبير، وجعله يخسر صفقات ضخمة. هنا، سقط القناع الذي كان يرتديه سالم. بدأ يصرخ في عماله بألفاظ جارحة، واتهم منافسيه بالغش والحقد، ولم يتوانَ عن اتهام جاره عمر بأنه “وجه النحس” الذي جلب المصائب للمنطقة.
ذهب سالم إلى منزل عمر غاضبًا، وطرق الباب بقوة. وعندما فتح له عمر، الذي كان منهمكًا في نحت قطعة خشبية، بدأ سالم يصب جام غضبه.
“أنت أيها الرجل! لم نرَ الخير منذ أن جاورتنا!” صرخ سالم في وجهه. “أتمنى لو أنك ترحل عن هذا الحيّ! فقرُك يجلب الفقر، وتفاؤلُك الساذج هذا ما هو إلا غطاء لبؤس مقيت!”
أصغى عمر بهدوء تام، لم يرتفع صوته، ولم تتجعد ملامحه بالغضب. انتظر حتى فرغ سالم من ثورته، ثم تنفس بعمق وقال بهدوء لاذع:
“يا سالم، أرى أن الأزمة قد كشفت ما في داخلك حقًا. أنت ثري في مالك، لكنك فقير في روحك. عندما كانت الأمور تسير جيدًا، غطيت مرارتك بحرير الثراء، لكن الآن، عندما تعرضت للضغط، نضح الإناء بما فيه.”
أشار عمر إلى قطعة الخشب التي كان يعمل عليها: “هذه القطعة، إن كانت جيدة، فمهما ضغطت عليها بالمطرقة أو المنشار، ستبقى أليافها متماسكة وقوية. وإن كانت فاسدة من الداخل، فبمجرد لمسة خفيفة ستتفتت وتنكشف هشاشتها. الأمر كذلك بالنسبة للإنسان.”
وأضاف عمر بابتسامة حزينة: “أنا لم أتغير. ما زلت سعيدًا بما لدي، ومتفائلاً رغم الضيق، لأن قلبي مملوء بالرضا. أما أنت، فإناؤك كان مملوءًا بالمرارة والحسد والشك، وعندما اهتز هذا الإناء بفعل الخسارة، سال منه كل ما كان يخفيه.”
صمت سالم، شعر بكلمات عمر كأنها سياط على روحه. لم يستطع الرد بكلمة واحدة، فانسحب وهو يجرّ أذيال الخيبة، ليس بسبب خسارته المادية، بل لأنه رأى نفسه عارية أمام مرآة الحقيقة التي كشفها له عمر.
منذ ذلك اليوم، بدأ سالم يفكر في جوهره الداخلي. أدرك أن ثروته لم تجعله سعيدًا، وأن وجهه البشوش كان مجرد قناع. بدأ يمحو الشكوى من قاموسه، ويستبدل الحسد بالتقدير، والشك بالغفران.
لم تتغير ثروة سالم بين ليلة وضحاها، لكن تغيرت حاله من الداخل. بدأ يعامل عماله بلطف، ويساعد جاره عمر في بعض الحاجات. ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الناس يلاحظون هذا التحول.
وهكذا، لم تكن الأزمة التي ضربت مدينة الأمل اختبارًا لقوة التجارة أو لصلابة الخشب، بل كانت معيارًا دقيقًا لجوهر الرجال. لم يتغير حال عمر لأنه كان مملوءًا بالرضا من الأساس، فزاد ضياؤه وثبتت نفسه. أما سالم، فقد كان اهتزاز حياته كفيلًا بأن يفتح الغطاء عن إناء نفسه، ليفيض منه المرارة والحقد الذي كان يخفيه. لكن الحكمة هنا لم تكمن في سقوط قناعه فحسب، بل في إدراكه المتأخر للحقيقة. لقد أدرك سالم أن قيمة الإنسان لا تقاس بحجم محفظته، بل بسعة صدره ونقاء روحه. وبمرور الأيام، لم يعد سعيه نحو الثراء المادي، بل نحو إبدال المرارة التي نضحت منه يومًا بالسكينة والرضا. لقد صارت قصة سالم وعمر درسًا خالدًا في المدينة، يؤكد بوضوح حقيقة لا تقبل الجدل: “كل إناء ينضح بما فيه”، وأن الضغط ليس سوى محفز لكشف ما يُخفيه القلب والروح من خير أو شر.
