مرحبًا شهر الصوم

٨ مارس ٢٠٢٢
بقلم/رانيا ضيف
هل شهر رمضان ليجبر الخواطر، ويطيب الجروح، ويداوي القلوب الموجوعة، ويمسح على الصدور المتعبة، ويشحن الطاقات الفارغة؟ جاء ليسمو بالروح وينقيها من أي تعلق دنيوي زائف.. فلنغتنم الفرصة، لعلها بداية جديدة تمحو الوجع، وتسقينا شربة من المحبة الخالصة، وتمنحنا نظرة رضا نسعد بها في الدنيا والآخرة.
فأيام قليلة ويطرق بابنا هذا الزائر العزيز الذي ننتظره من العام للعام بالكثير من الشوق واللهفة..
شهر التنقية والتزكية وتغذية الروح.
نشحن أرواحنا في هذا الشهر الكريم بطاقات المحبة والطمأنينة، فنتودد للودود ويتودد لنا، وترتاح أجسادنا قليلًا من الشراب والطعام في فترات الصيام، فينشط هرمون النمو الذي بدوره يأكل الخلايا الميتة أو التي أصابها الخلل والتي في طريقها لأن تكون بذرة لأورام سرطانية، فيتخلص منها الجسد وهي في مهدها فيصح!
فلعل في هذا الشهر يصح الجسد وتسمو الروح وترتقي..
كم اشتقنا للأجواء الرمضانية، ولصلاة التراويح في المساجد، وتجمعات الأهل والأصدقاء على الإفطار، والمنافسة في أعمال الخير والصدقات وختم القرآن. هذا الشهر فرصة عظيمة لوصل الرحم.
رمضان حالة من القرب، والطمأنينة، والألفة..
مر عامان على رمضان في زمن الكورونا وطقوس التباعد والتعقيم والكمامات،
رغم قسوة أحداثه علينا، إلا أنها كانت فرصة ذهبية وحقيقية لنتعرف على أنفسنا وعلى ربنا بصدق!
فلا مجال للرياء أو الاعتياد، ولا مجال للتباهي بالكرم، أو التلاهي بكثرة الولائم..
كانت فرصة لتعود العبادة لأصلها الروحاني، فإن فرض الواقع علينا الابتعاد عن كل مظاهر العبادة الشعائرية المعتادة في تجمعات؛ كصلاة الفروض جماعة أو صلاة التراويح والتهجد، فكذلك أهدانا فرصة لنختلي بخالقنا فنصلي صلاة حقيقية الصلة بين العبد وربه في خلوة..
فلا مقاطعات، ولا انشغالات بالغير، فلا مجال لتشتت الذهن، أو الشرود..
(وعَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا”).
فكان لبيوتنا كل النصيب من صلاتنا،
كان يؤم كل رب أسرة أهل بيته، جاعلًا نيته إصلاح الخلل، وتعويض التقصير، وتأسيس المحبة، والمودة، والرحمة..
فرمضان هدية لكل أسرة ضاع بين أفرادها الود والصلة، سواء لانشغال الآباء أو انجذاب الأبناء لقضاء أوقاتهم مع رفقائهم.
جاء رمضان ليعيد للأسرة تماسكها، وترابطها، ويقوي أواصر المحبة، والود بينهم..
أما الآن، وقد عدنا لحياتنا الطبيعية، فلنشكر الله على كل أقداره التي علمتنا أن الطبيعي في حياتنا والذي اعتدناه كان نعمة عظيمة نغفل عنها.
ولنشارك أطفالنا في صناعة الزينات والبهجة، وتخصيص أماكن للصلاة، وقراءة القرآن بتدبر، وقضاء وقت ممتع وسعيد، ونستغلها فرصة، ونحدثهم عن مفهوم الصيام، وفضل الشهر الكريم..
لمحة أخرى جديرة بإلقاء الضوء عليها،
قد اعتاد الكثير من الناس في هذا الشهر الكريم أداء العمرة؛ حتى إن البعض كان يحرص على أدائها كل عام، أو عدة مرات في العام الواحد!
فماذا لو أنفقنا نفقات العمرة لدعم ذوي الحاجات ممن تضرروا من غلاء الأسعار إثر الحرب الروسية الأوكرانية!
ماذا لو ارتقينا بمفهوم العبادة السائد، والمتمثل في الشعائر، لمفهوم الإعمار في الأرض، ونفع الناس!
قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)
والله إنه، لو تعلمون، عند الله عظيم..
ماذا لو تعاملنا برحمة، وذكاء، وفهمنا مقاصد الدين، وفقه الواقع؟!
وذلك أكثر ما نحتاجه الآن.
لعل ارتفاع الأسعار هذا العام يجنبنا إهدار النعم في الولائم المبالغ فيها، فنستبدلها بفطور مناسب لكل أسرة بلا مبالغة..
فالمال المهدر في الولائم يمكننا به عمل وجبات وتوزيعها على رِقاق الحال، والمعسرين، وأصحاب الحاجة،
إنه لنِعم الأجر والثواب والنفع.
قال تعالى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا؛ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا؛ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا؛ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا؛ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 5-12].
لقد قضينا، عزيزي القارئ، الكثير من شهور رمضان المعتادة بنفس النمط، والسلوكيات، والعبادات، والطقوس.
هل لاحظنا اختلافًا في تقدم الأمة، أو طفرات نجاح، أو تقدم علمي، أو حل أزمات؟!
هل فهمنا ديننا، والمراد منا؟ هل سادت الأخلاق الحميدة، والاهتمام بالعلم، وإتقان العمل؟!
هل رأينا ثمرة الشهر الكريم في الاهتمام بالنظافة، والإتقان، والإيثار، والمحبة، ونفع الناس، والتراحم بيننا؟!
إذا لم يكن للشهر الكريم ثمرات واضحة جلية، وطفرات في التقدم، والوعي، والعمل في الأوقات السابقة،
فلعل هذا العام يكون فرصة لإعادة النظر في مقاصد الشريعة والعبادات، وأهداف التربية الروحية، والدينية الصحيحة..
لعل رمضان هذا العام يكون فرصة حقيقية للتفكر، والتأمل في أحوالنا؛ فتأتي الرياح كما تشتهي السفن هذه المرة..
وكل عام وأنتم بخير
رمضان كريم..