كتب …أحمد رشدي
في زمن ازدحمت فيه الوجوه وقلت فيه المشاعر صار الدفء عملة نادرة وصارت القلوب كالحجارة لا تلين يبتسم الناس بلا إحساس ويواسي بعضهم بعضا بكلمات جوفاء لا تمت للصدق بصلة نعيش في عصر يسمى عصر التواصل لكنه في الحقيقة عصر الانفصال الإنساني حيث يقترب الناس جسدا ويبتعدون روحا.
لقد تحولت العلاقات إلى واجبات والمشاعر إلى مجاملات والأحاديث إلى رسائل مقتضبة بلا روح أصبح المحب يخاف أن يظهر مشاعره والصديق يتردد أن يساند والأخ ينسى أن يسأل حتى دفء الأسرة الذي كان ملاذا للروح غاب خلف شاشات باردة وأجهزة صامتة.
يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور إن الإنسان المعاصر يهرب من ذاته بالتكنولوجيا حتى لم يعد يعرف كيف يشعر وهي حقيقة مؤلمة نراها كل يوم في وجوه تضحك ولا تفرح وعيون تنظر ولا ترى وقلوب تنبض بلا حياة.
وقد أكدت دراسة نشرتها جريدة علم النفس الحديث أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل يقلل من إفراز هرمون الأوكسيتوسين المسؤول عن التعاطف والارتباط العاطفي مما يجعل الإنسان أقل إحساسا بالآخرين وأكثر عزلة وبرودا.
حين يصبح الألم مشهدا عاديا والظلم خبرا عابرا والدموع لا تحرك فينا شيئا حينها ندرك أننا دخلنا حقبة جديدة اسمها زمن القلوب الباردة
المجتمع الذي يفقد حرارة المشاعر يفقد إنسانيته لأن البرود لا يحمي أحدا بل يقتل ببطء لقد صرنا نخشى الاقتراب نخاف أن نجرح أو نستغل فبنينا حول قلوبنا جدرانا من الجفاء حتى صرنا نعيش كأننا غرباء في وطن واحد.
في الدين نجد العلاج قبل أن نعرف المرض قال الله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة فالقسوة ليست قدرا بل نتيجة البعد عن الله وعن الرحمة التي أمرنا بها وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تنزع الرحمة إلا من شقي
إن رماد البرود لا يطفئه إلا الإيمان ولا يذيب الجليد إلا دفء القلوب الصادقة
يرى خبراء علم النفس أن العلاج يبدأ من إعادة التواصل الإنساني الحقيقي فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة لهما أثر علاجي يفوق أي دواء
وقد أوضحت الدكتورة هالة كمال استشارية الطب النفسي في حوار مع الأهرام الطبي أن الإنسان حين يفقد التفاعل الوجداني يبدأ تدريجيا في تجميد مشاعره دفاعا عن نفسه لكن العلاج يبدأ حين يتصالح مع ذاته ويتعلم التعبير عن إحساسه دون خوف أو تردد
ويشير علماء الاجتماع إلى أن استعادة الدفء الإنساني تحتاج إلى إحياء قيم الرحمة والعطاء والتواصل الواقعي فالحديث وجها لوجه والزيارة الصادقة والسؤال عن الغائب كلها أفعال صغيرة تعيد للحياة معناها الكبير
كما ينصح علماء الدين بالرجوع إلى ذكر الله والتأمل في نعمه فالقلب الذي يذكر الله يلين ويشعر بالناس قال تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب
وأري … أن علاج البرود لا يأتي من الخارج بل من داخل الإنسان نفسه حين يعيد ترتيب أولوياته ويمنح الوقت لمن يحب ويتعلم أن .الرحمة ليست ضعفا بل قمة القوة الإنسانية
المصادر
كتاب الإنسان المهدور للدكتور مصطفى حجازي
مجلة علم النفس الحديث عدد يوليو عام ألفين وأربعة وعشرين
حوار الدكتورة هالة كمال في جريدة الأهرام الطبي
الأحاديث النبوية الصحيحة
