فكرة… أحمد رشدي
في ليلةٍ ساكنةٍ إلا من أنفاس الفكر،
جلس العقل والقلب وجهاً لوجهٍ بعد أن أنهكهما صاحبهما من كثرة ما تاه بين منطقٍ يحلل وإحساسٍ يشتعل.
كانت العيون مغلقة، لكن الحوار كان يدور في الأعماق، حيث لا صوت إلا للصدق، ولا حضور إلا للوعي.
قال العقل بلهجةٍ حادةٍ يكسوها الاتزان:
ـ إلى متى يا قلبُ ستقود صاحبنا إلى الجراح؟ ألا تملّ من الدموع؟ كم مرةً تبني جسوراً من الأمل، ثم تهدمها بيديك حين يغيب من أحببت؟ أراك لا تتعلم، لا تتعظ، تسير خلف نبضٍ لا يعرف طريق النجاة.
ابتسم القلب ابتسامةً حزينة، كأنها نغمة على وترٍ مكسور، وقال بهدوءٍ يقطر ألماً:
ـ يا عقل، أنت تفكر لتفهم، وأنا أشعر لأعيش. أنت تزن الأشياء بميزان المنطق، وأنا أزنها بحرارة الوجدان. لست متهوراً كما تزعم،
بل أنا صادق.
إن الحب والحنين والرحمة كلها لغتي، فكيف تطلب مني أن أتحول إلى آلةٍ من حجارة؟
ردّ العقل ساخطاً:
ـ لكنك تدفع الإنسان إلى ما يؤذيه! كم من مرةٍ كنتَ سبباً في سهرٍ طويل، وفي دمعةٍ سالت بلا جدوى!
أنا أُحكّم بالبصيرة، وأنت تحكم بالعاطفة.
أنت تنسى الحدود، وأنا من يرسمها!
خفض القلب رأسه كمن يعترف بشيءٍ لا يستطيع إنكاره وقال:
ـ نعم، أنا أُتعبه بالمشاعر، ولكني أيضاً أُحييه. من دوني سيصير آلةً باردةً تعرف الحساب ولا تعرف الرحمة.
أنت تقول “يجب”، وأنا أقول “أحب”. كلا الكلمتين ضروريتان،
فبدونك أضيع، وبدوني تجفّ روح الإنسان.
سكت الاثنان لحظةً، ثم تسلّل صوتٌ ثالث، هادئٌ كهمس الفجر،
قويٌّ كصوت الحق.
كان الضمير قد دخل المجلس.
قال بصوتٍ مملوءٍ بحكمة الإيمان:
ـ كفاكما خصاماً أيها الرفيقان.
لقد خُلقتما لتكمّلا بعضكما لا لتتقاتلا.
يا عقل، أنت نور الهداية، وبك يميز الإنسان طريق الصواب.
ويا قلب، أنت دفء الحياة، وبك يدرك الإنسان معنى الوجود.
أما أنا، فأنا الميزان بينكما، أقيمكما على صراط الله المستقيم. إن تجاوزتَ يا قلب حدودك، أوقظك بنداء التقوى.
وإن قسوتَ يا عقل حتى تجمد الإحساس، ذكّرتك برحمة الله التي وسعت كل شيء.
ثم تابع الضمير قائلاً بصوتٍ خاشع:
ـ إن الإنسان لا ينجو بعقلٍ بلا قلب،
ولا بقلبٍ بلا عقل،
ولكن بمن جمعهما في طاعة الله،
وسار بهما على نور اليقين.
…..
ساد الصمت، وتصالحت الأصوات الثلاثة في أعماق النفس. شعر صاحبها براحةٍ غريبةٍ كأن نسمةً من الجنة لامست صدره.
وفي نهاية الحوار، همس العقل قائلاً:
ـ لعل الحق معك يا ضمير.
وأجابه القلب بصوتٍ واثقٍ مفعمٍ بالسكينة:
ـ نعم،
لأن الحق دائماً يسكن حيث يذكر اسم الله.
