بقلم: أحمد رشدي
في كل لحظةٍ نظنّ أننا نملك زمام قراراتنا، نختار ونفكر ونقرر بمحض إرادتنا،
وكأننا نحن من يتحكم في دفة الحياة.
غير أن العلم الحديث بدأ يكشف سرًّا مدهشًا: ربما لا نختار كما نظن، وربما هناك عقل خفيّ في داخلنا يسبقنا إلى القرار قبل أن ندركه.
ففي تجربة علمية بارزة أجراها العالِم الأمريكي بنجامين ليبت بجامعة كاليفورنيا،
طُلِب من المتطوعين أن يضغطوا زرًّا في أي وقتٍ يشاؤون، بينما تُسجّل أجهزة رسم المخ نشاط أدمغتهم.
وكانت المفاجأة أن الدماغ أظهر إشارات استعدادية للقرار قبل أن يعلن الشخص عن اختياره بسبع ثوانٍ كاملة! أي أن المخ قرّر قبل أن يقرر الإنسان.
هذه النتيجة التي وُصفت آنذاك بالثورية، أعاد تأكيدها فريق من الباحثين في معهد ماكس بلانك بألمانيا باستخدام تقنيات التصوير العصبي المتقدمة، حيث أظهرت النتائج أن الدماغ يتهيأ للقرار قبل أن يشعر الإنسان بأنه اتخذه.
وهنا بدأ السؤال الفلسفي الكبير يطفو على السطح:
هل نحن أحرار فعلًا في قراراتنا؟ أم أن الحرية مجرد وهمٍ متقن الصنع؟
يقول البروفسور جون ديلان هاينز، عالم الأعصاب بجامعة برلين:
“ما نسميه حرية إرادة ليس إلا لحظة وعي متأخرة بقرارٍ سبق أن اتخذه دماغنا في العمق اللاواعي. نحن نعيش التجربة بعد حدوثها.”
لكن الفلاسفة لا يرون في ذلك سلبًا للحرية،
بل إعادة تعريف لها.
فالفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت يفسر الأمر قائلًا:
“اللاوعي ليس عدوًّا للحرية، بل هو جزءٌ منا. القرارات التي تخرج من أعماقنا هي نتيجة لشخصيتنا وتاريخنا وتجاربنا، وبالتالي فهي قراراتنا، حتى وإن لم ندرك لحظة اتخاذها.”
أما من الناحية الدينية ، فإن الإسلام لا يفصل بين “النية” و”العقل” و”النفس”، بل يجمعها في منظومة واحدة تمثل كيان الإنسان المسؤول أمام الله.
يقول الدكتور محمد عبد الغفار الشريف، أستاذ العقيدة بجامعة الكويت، في حديثٍ لمجلة الفكر والحياة:
“الاكتشافات العلمية التي تتحدث عن دور اللاوعي لا تنفي حرية الإنسان، بل تفسّر كيف تعمل النفس التي ألهمها الله فجورها وتقواها. فالإلهام الإلهي فطرة داخلية،
والإرادة الحقيقية تظهر حين يوجّه الإنسان ما في داخله نحو الخير.”
ومن زاويةٍ نفسية، يوضح الطبيب النفسي المصري الدكتور أحمد هلال في حواره مع مجلة العلوم النفسية..أن اللاوعي هو الذاكرة الخفية التي تشكل ردود أفعالنا دون أن نشعر:
“العقل الباطن هو الذي يختار في صمتٍ ما نظن أننا اخترناه بعقلنا الواعي. هو مخزون الخبرات والعواطف والمخاوف التي تحركنا من خلف الستار.”
ويرى الخبراء أن هذه النتائج لا تنفي مسؤولية الإنسان، بل تذكّره بضرورة تهذيب باطنه، لأن قراراته الحقيقية تنبع من هناك.
فكلما صفا القلب وتهذّب الضمير، صار اللاوعي حليفًا للخير، وكلما امتلأ بالقلق أو الأهواء، دفع صاحبه إلى طرقٍ مظلمة دون وعيٍ منه.
إنّ العلم، في جوهره، لا ينفي الإيمان، بل يمدّه بمعرفة أعمق لطبيعة النفس التي خلقها الله. فحين يقول العلماء إن العقل يسبق القرار، يجيب القرآن الكريم في صداه القديم:
“وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”.
وفي النهاية، يبقى الإنسان لغزًا لم يُكتشف بعد، مزيجًا من نورٍ وطين،
من وعيٍ وخفاء،
من عقلٍ يسبق القلب وقلبٍ يسبق العقل.
وكلما ظنّ الإنسان أنه عرف نفسه،
وجد في داخله صوتًا جديدًا يقول له:
“ما زلتَ في البداية.”
المصادر:
Benjamin Libet, Unconscious cerebral initiative and the role of conscious will in voluntary action, Behavioral and Brain Sciences, 1985.
John-Dylan Haynes et al., Nature Neuroscience, 2008.
حوار مجلة الفكر والحياة مع د. محمد عبد الغفار الشريف، عدد فبراير 2024.
حوار مع د. أحمد هلال – مجلة العلوم النفسية، نوفمبر 2023.
القرآن الكريم.
