د.نادي شلقامي
انعكاس غلاء المعيشة على السلوك والأخلاق والصحة النفسية والبدنية…
“لهيب الأسعار وخلفه إنسانية تتأرجح”
يُعدّ غلاء المعيشة والتضخم الاقتصادي من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات في العصر الحديث، فهو ليس مجرد ارتفاع في أرقام الأسعار، بل هو زلزال اجتماعي صامت تتأثر به كل فئات المجتمع. هذا الارتفاع المتصاعد في تكاليف السكن، الغذاء، الصحة، والتعليم، يفرض ضغوطًا هائلة على الأفراد والأسر، ليترك بصمات عميقة ومؤلمة لا تقتصر على الجانب المادي فحسب، بل تمتد لتطال النسيج السلوكي والأخلاقي والصحي والنفسي للإنسان. هذا التقرير يسلط الضوء على الانعكاسات السلبية الدقيقة لغلاء المعيشة على شرائح مختلفة من المجتمع، من الشباب والأطفال إلى الموظفين وأصحاب الحرف والسيدات العاملات.
انعكاسات غلاء المعيشة…
أولا… الانعكاسات النفسية والصحية: الضغط يُولّد المرض
العبء المالي المستمر يُعتبر من أقوى مصادر الضغط النفسي المزمن، مما يؤدي إلى:
1- ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب: الشعور بالعجز المادي وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية يولد حالة من اليأس والقلق المستمر حول المستقبل.
2- اضطرابات النوم: التفكير المفرط في كيفية تأمين المال يدفع الكثيرين نحو الأرق واضطرابات النوم المزمنة.
3- التأثير على الصحة البدنية: الإجهاد النفسي المزمن يؤدي إلى ضعف جهاز المناعة، ارتفاع ضغط الدم، ومشاكل في الجهاز الهضمي (القولون العصبي مثلاً).
4- سوء التغذية: اضطرار الأسر لتقليل نفقات الغذاء يدفعها نحو شراء الأطعمة الأرخص والأقل قيمة غذائية، مما يؤثر سلبًا على صحة الأطفال ونموهم، وصحة البالغين وقدرتهم على التركيز والعمل.
ثانيا…. الانعكاسات السلوكية والأخلاقية:
“تحوّل في القيم”
يؤدي التضييق الاقتصادي إلى تغييرات جذرية في سلوك الأفراد وتراجع في بعض القيم الاجتماعية:
1- زيادة العنف الأسري والاجتماعي: تفاقم الضغوط المالية يزيد من حدة الخلافات الزوجية والأسرية، ويجعل الأفراد أكثر عُرضة للانفعال والغضب، مما يرفع من معدلات العنف اللفظي والجسدي.
2- انتشار الظواهر السلبية: قد يلجأ البعض، خاصة من يفتقرون إلى الوازع الأخلاقي أو يعانون من الحاجة الشديدة (كبعض الموظفين وأصحاب الحرف ذوي الدخل المحدود)، إلى ممارسات غير مشروعة مثل الرشوة، الاحتيال، أو الكسب غير المشروع لسد الفجوة بين الدخل والنفقات.
3- التسرب المدرسي: في الأسر الفقيرة، قد يُضطر الأطفال والشباب لترك التعليم (التسرب المدرسي) والاندفاع إلى سوق العمل مبكرًا للمساعدة في إعالة الأسرة، مما يعيق تطورهم ويحد من فرصهم المستقبلية.
4- تراجع العلاقات الاجتماعية: يقلل الأفراد من النشاطات الاجتماعية والترفيهية (مثل الزيارات والتجمعات) لتجنب الأعباء المالية المترتبة عليها، مما يؤدي إلى عزلة اجتماعية وتوتر في العلاقات.
ثالثا…انعكاسات الغلاء على فئات محددة
1-الأطفال (فئة الضحايا الصامتة)
أ- إهمال التربية والرعاية: انشغال الآباء والأمهات الدائم بتأمين المال وتوفير النفقات، خاصة السيدات العاملات اللاتي يزداد عبئهن، يقلل من الوقت المخصص للتربية السليمة والرعاية العاطفية للأطفال.
ب- مشاعر الحرمان: عدم قدرة الأسرة على توفير الاحتياجات الأساسية والمقارنة مع الأقران تولد لدى الطفل مشاعر حرمان مزمنة قد تتحول إلى عقد نفسية أو سلوك عدواني لاحقًا.
2-الشباب والبنات (فئة الأمل والمستقبل)
أ- تأجيل الزواج وارتفاع العنوسة: ارتفاع تكاليف المهور والسكن وتأسيس الأسرة يجعل الزواج حلماً بعيد المنال، مما يولد إحباطاً نفسياً ويزيد من مشكلة العنوسة.
ب- هجرة الكفاءات (“نزيف العقول”): يضطر الشباب ذوو الكفاءات للبحث عن فرص عمل ودخل أفضل في الخارج، تاركين بلادهم بحثًا عن حياة كريمة، مما يُشكل خسارة كبيرة للاقتصاد الوطني.
ج- اليأس وعدم الرغبة في التخطيط: الشعور بأن الجهد لا يتناسب مع المقابل المادي يقتل الطموح ويجعلهم أقل رغبة في التخطيط للمستقبل أو تطوير الذات.
3- السيدات العاملات والموظفون وأصحاب الحرف
أ-صراع الأدوار للسيدات: تُجبر السيدة العاملة على تحمل عبء العمل خارج المنزل وداخله في الوقت نفسه لسد العجز المالي، مما يعرضها لـ “صراع الأدوار” وضغوط نفسية ومهنية هائلة قد تؤدي إلى الإرهاق (Burnout).
ب- تدهور جودة العمل: الموظف أو صاحب الحرفة الذي يعيش تحت ضغط دائم لا يتمتع بالاستقرار النفسي الكافي لتقديم أفضل ما لديه، مما يؤثر على إنتاجيته وجودة عمله، وقد يدفعه للبحث عن وظيفة إضافية (عمل ثاني) على حساب صحته ووقته الأسري.
ج- الديون والاقتراض: يضطر الكثيرون إلى اللجوء للاقتراض والديون، خاصة من البنوك، لتمويل الاحتياجات الأساسية، مما يزيد من الضغط النفسي ويدخلهم في حلقة مفرغة من العجز المادي.
رابعا…دور المسؤولين وأصحاب القرار في الدولة تجاه غلاء الأسعار وتجاه المواطنين:-
يُعد دور الدولة محوريًا وحاسمًا في مواجهة التضخم وضبط الأسواق، وينقسم إلى إجراءات اقتصادية كلية وإجراءات رقابية مباشرة:
1. الإجراءات الاقتصادية والمالية الكلية:
أ- السياسات النقدية (البنك المركزي): استخدام أدوات السياسة النقدية (مثل رفع أو خفض أسعار الفائدة) للتحكم في المعروض النقدي وكبح جماح التضخم.
ب- السياسات المالية (الحكومة): تقليل الإنفاق الحكومي غير الضروري وتحقيق الانضباط المالي.
ج- خفض الرسوم والضرائب: تخفيف الأعباء الضريبية والجمركية على السلع الأساسية المستوردة أو مدخلات الإنتاج لخفض تكلفتها النهائية.
د- توجيه الدعم المالي: تحويل الدعم من دعم السلع الشامل إلى تحويلات نقدية مباشرة وموجهة للفئات الأكثر احتياجًا لضمان وصول الدعم لمستحقيه فعلاً دون إهدار.
2. الرقابة وضبط الأسواق وحماية المستهلك:
أ- مكافحة الاحتكار والممارسات الضارة: تفعيل قوانين حماية المنافسة ومنع الاحتكار الذي يسمح للمستغلين بالتحكم في الأسعار ورفعها بشكل غير مبرر.
ب- تشديد الرقابة على الأسواق: فرض عقوبات صارمة ورادعة على التجار الذين يستغلون الأزمات لرفع الأسعار دون مبرر، والتأكد من وضوح وتسعير السلع.
ج- دعم السلع الأساسية: التدخل المباشر لدعم أسعار عدد محدود من السلع الحيوية (الغذاء، الطاقة، العلاج) لضمان حصول الفقراء ومحدودي الدخل عليها.
د- تسهيل التجارة وسلاسل الإمداد: فتح الأسواق أمام الاستيراد وتسهيل الإجراءات اللوجستية لضمان تدفق السلع وخلق منافسة حقيقية تكسر الاحتكار.
ه- تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي: توسيع برامج الحماية الاجتماعية (مثل برامج “تكافل” و”كرامة”) وزيادة المستفيدين منها للتخفيف من الأثر النفسي والاجتماعي للغلاء على الطبقات الفقيرة.
خامسا…إليك دور المواطنين لمواجهة مشكلات غلاء الأسعار :
يقع على المواطن مسؤولية أساسية ليكون “المستهلك الواعي” و “الرقيب الشريك” في ضبط الأسواق، ويتمثل دوره فيما يلي:
1. الوعي والتخطيط المالي
أ- إدارة الميزانية وتحديد الأولويات: وضع ميزانية شهرية دقيقة للتمييز بين الضروريات الأساسية (غذاء، سكن، علاج) والكماليات أو الرغبات، والالتزام الصارم بشراء ما هو ضروري فقط.
ب- مقاومة الإغراءات الاستهلاكية: تجنب الشراء الاندفاعي أو الاستجابة لحملات الإعلانات التي تشجع على استهلاك سلع غير ضرورية.
ج- البحث عن التوفير: المقارنة بين أسعار نفس السلعة في أكثر من منفذ بيع (أسواق الجملة، المتاجر الكبرى، الأسواق المحلية) لشراء الأرخص.
2. التغيير في أنماط الاستهلاك
أ- ترشيد الاستهلاك المنزلي: تقليل هدر الموارد كالكهرباء والماء والوقود، مما ينعكس مباشرة على تخفيض فواتير الخدمات.
ب- تبني البدائل: البحث عن بدائل محلية للسلع المستوردة مرتفعة الثمن، وشراء الماركات الأقل شهرة التي تقدم جودة مماثلة بسعر أقل.
ج- الاعتماد على التغذية الموسمية والمحلية: شراء المنتجات الزراعية والمواد الغذائية في مواسم إنتاجها محليًا حيث تكون أسعارها في أدنى مستوياتها.
3. الإيجابية والرقابة المجتمعية
أ- مقاطعة مؤقتة للسلع المغالى فيها: ممارسة دور المقاطعة السلبية المنظمة لأي سلعة يرفع التجار سعرها بشكل غير منطقي وبدافع الجشع، مما يضغط على التاجر لتخفيض الأسعار.
ب- الإبلاغ عن المخالفات التجارية: التعاون مع أجهزة حماية المستهلك والجهات الرقابية عن طريق الإبلاغ الفوري عن أي تاجر يمارس الاحتكار، أو الغش التجاري، أو يرفع الأسعار دون مبرر.
ج- تعزيز ثقافة التكافل: مساعدة الفئات الأشد ضعفًا من خلال المبادرات الخيرية أو التبرعات أو تقليل هامش الربح في التعاملات الشخصية.
4. تعزيز مصادر الدخل والأمان المالي
أ- تطوير المهارات وزيادة الدخل: السعي لتعلم مهارات جديدة مطلوبة في سوق العمل أو البحث عن مصدر دخل إضافي بجانب الوظيفة الأساسية.
ب- الابتعاد عن الديون الاستهلاكية: تجنب الاقتراض لشراء الكماليات أو السلع التي تفقد قيمتها سريعًا، واللجوء للاقتراض فقط للضروريات أو الاستثمار المدر للدخل.
ج- الادخار وحفظ القيمة: تحويل جزء من المدخرات إلى أصول تحافظ على قيمتها الشرائية بمرور الوقت لمكافحة التضخم.
“دعوة إلى التكافل وبناء المرونة”…
يؤكد هذا التقرير أن غلاء المعيشة ليس تحديًا اقتصاديًا فحسب، بل هو أزمة إنسانية واجتماعية شاملة. لقد أثبت الواقع أن الاستقرار المادي هو القاعدة التي يُبنى عليها الاستقرار النفسي والأخلاقي والاجتماعي. لمواجهة هذه الانعكاسات الخطيرة، يجب على الحكومات والمؤسسات اتخاذ إجراءات فورية لحماية الفئات الأكثر ضعفاً، مثل توفير شبكات أمان اجتماعي حقيقية وضبط الأسعار. وفي ذات الوقت، تقع المسؤولية على المجتمع لتعزيز التكافل الاجتماعي، نشر الوعي بأهمية الصحة النفسية، وتشجيع الأفراد على بناء المرونة النفسية لإدارة ضغوط الحياة. فـ”إنقاذ” الفرد من براثن الضغط المادي هو خطوة أساسية نحو بناء مجتمع سليم، أخلاقي، ومنتج.
