(قصة قصيرة من ريف الصعيد)
بقلم د.نادي شلقامي
في قلب الصعيد المصري، حيث تقف الجبال الشاهقة كحراس صامتين على ضفاف النيل العظيم، وحيث تضرب جذور العادات والتقاليد عميقًا في الأرض، تتناقل الأجيال حكايات تحمل في طياتها حكمة الأجداد. هنا، حيث الكرم أسلوب حياة، والنخوة قيمة عليا، قد ينسى البعض نفسه في سبيل إرضاء الآخرين. هذه قصة “الحاج مهران”، رجلٌ أهلكته الأيام في خدمة غيره، ليجد نفسه وحيدًا في النهاية، شاهدًا على بيوتٍ بناها وبيتٍ أهمله.
كان الحاج مهران، الرجل السبعيني من إحدي قري محافظة بسوهاج، شخصية محورية في بلدته. لم يكن ثريًا بماله، بل كان غنيًا بعلمه وحكمته. كان معروفًا بـ “فَكاك المشاكل”، ذاك الذي يذهب إليه الناس لحل نزاعاتهم، وتقديم النصيحة في أمور الزواج والطلاق، وتقسيم الميراث، وحتى النزاعات على الأراضي الزراعية. كان الحاج مهران يجلس في “مضيفته” (غرفة استقبال الضيوف) طوال اليوم، يستمع إلى شكاوى الناس، ويسعى جاهدًا لإرضاء الجميع، ولو كان ذلك على حساب وقته وجهده وصحته.
كان الحاج مهران يؤمن إيمانًا راسخًا بأن خدمة الناس واجب، وأن رضاهم هو مفتاح البركة في الحياة. كان يترك أرضه الزراعية ليعتني بها أبناؤه، ويؤجل إصلاحات بيته الذي ورثه عن أبيه، وينسى طلبات زوجته “أم الخير” التي كانت تتمنى لو قضى معها بعض الوقت، أو حتى أصلح الباب المكسور في المطبخ. “يا أم الخير، أهل البلد محتاجيني. دي أمانة في رقبتي. بعدين نشوف البيت” كان هذا رده الدائم.
توالت السنوات، وشهدت مضيفة الحاج مهران آلاف الزوار. كم من عائلات اجتمعت بفضله بعد خلاف، وكم من قضايا شائكة حُلت بكلمته الحكيمة. كان يقطع المسافات الطويلة بين القرى سيرًا على الأقدام أحيانًا، ليُصالح بين متخاصمين، أو ليشهد على عقود بيع وشراء، وكل ذلك لوجه الله ودون مقابل. كان يرى سعادة الناس في حل مشاكلهم هي المكافأة الحقيقية.
لكن الزمن لا يرحم وأصاب الحاج مهران وهنٌ في جسده، وبدأ المرض يتسلل إليه. أصبحت خطواته أثقل، وصوته أضعف. ومع ذلك، لم يتوقف عن استقبال الناس. أما بيته، فكان يحكي قصة إهمال طويل. الجدران متشققة، الأثاث قديم ومتهالك، والسطح يحتاج إلى ترميم عاجل. أبناؤه، رغم حبهم له، كانوا قد انشغلوا بأراضيهم وعائلاتهم، معتمدين على أن والدهم سيبقى هو “المرجع” للجميع.
ذات ليلة، بينما كان المطر يهطل بغزارة، تسربت المياه من سقف بيت الحاج مهران، فأغرقت إحدى الغرف.
استيقظت أم الخير مفزوعة، وهرعت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. رأت الحاج مهران يجلس في مضيفته، رغم تأخّر الوقت، يستمع إلى رجل يشكو من مشكلة في الميراث. نظرت إليه بحزن، وشعرت أن قلبها ينفطر. بيوت الناس مُصانة، وبيتهم هو من ينهار.
لم تستطع أم الخير أن تتماسك هذه المرة، وقالت بصوت خافت لكنه يحمل الكثير من العتاب: “يا حاج مهران، بيوت الناس كلها معمورة بفضلك، وكلمتك مسموعة في كل دُوار. لكن بيتنا يا حاج، بيتنا هو اللي خربان. عمرت حياة الناس، ونسيت حياتنا وبيتنا.
نظرت عينا الحاج مهران إلى زوجته، ثم إلى الرجل الجالس أمامه. صمت لحظة طويلة، وكأن كلمات أم الخير اخترقت حصون إنكاره لذاته. للمرة الأولى، رأى الحقيقة بوضوح. لقد كان “فكاك المشاكل” للجميع، ولكنه خلق مشكلة لنفسه وأهله.
في الأيام التالية، لم يترك الحاج مهران المضيفة فارغة تمامًا، لكنه بدأ يرفض بعض الطلبات التي لا تتسم بالعجلة، ويوجه الناس إلى أبنائه أو شيوخ آخرين. والأهم من ذلك، أنه بدأ يقضي وقتًا أطول في بيته. بمساعدة أبنائه، الذين شعروا بالتقصير بعد كلام أم الخير، بدأوا في ترميم البيت وإصلاحه. كانت تلك المعدات البسيطة التي لم يجد لها وقتًا من قبل، تُستخدم الآن لإعادة الحياة إلى جدران بيته.
تغيّر الحاج مهران، ليس لأنه توقف عن مساعدة الناس، بل لأنه تعلم التوازن. استمر في دوره كحكيم القرية، لكنه أدرك أن الحكمة الحقيقية تبدأ بالاعتناء بالنفس والأهل أولاً. عاش الحاج مهران بقية حياته في بيت مُرمم، تحيط به عائلته التي شعرت بقيمته أكثر، وبقي يُشار إليه بالبنان كرجل خدم الناس وأصلح ذاته. وبقيت قصته حكمة تتردد على ألسنة أهل الصعيد: “يامعمر بيوت الناس، وبيتك خربان” هو تذكير بأن أعظم خدمة يمكن أن تقدمها للعالم، تبدأ من منزلك وقلبك.
