بقلم : أحمد رشدى
يقولون إن الليل ستارٌ رحيم يخبّئ ما لا نحب رؤيته…
لكنّي لم أفهم يومًا لِمَ يصرّ بعض البشر على تمزيق هذا الستار بأنفسهم.
ربما لأن الفضول أقوى من الحذر،
وربما لأننا جميعًا ننسى تلك العبارة التي تتردد دائمًا في رأسي “ما دام الأمر يسير على نحو سيئ… فانتظر الأسوأ”
كان الليل قد بلغ ذروة سواده؛
قمرٌ هزيل يتوارى خلف السحب،
والهواء يمرّ بين الأشجار كأنّه يتآمر معهم على إطفاء آخر بصيص أمان.
الممر الترابي الذي أسير فيه بدا أطول مما أتذكر، وكأن الأرض تمدّ نفسها بوقاحة لا نهائية.
تسلل إلى مسامعي عواء ذئاب متقطع،
أقرب إلى التحذير منه إلى الافتراس. لحظتها تمنيت لو أن الفضول لم يجرّني إلى هذه الغابة، لكن الصوت الذي سمعته قبل ساعة،
ذلك الانين العميق الآتي من خلف التلال،
لم يترك في داخلي مساحة للتفكير.
تابعت السير وأنا أستعيد العبارة السخيفة التي كنت أرددها كلما داهمني القلق
“ما دام الأمر يسير على نحو سيئ… فانتظر الأسوأ”
لم أكن أعلم أني سأدفع ثمن خفّتي الفكاهية قريبًا جدًا.
فجأة، شقّ صمت الغابة نباحٌ حادّ،
ليس نباح كلب واحد، بل مجموعة كاملة تُعلن حفل مطاردة في ليل لا يحب الضيوف المتأخرين مثلي.
التفتّ حولي فلم أرَ إلا ظلالًا تتحرك بسرعة، ظلالًا لا يمكنني الجزم إن كانت لحيوانات…
أم لشيء آخر.
تسارعت خطواتي، ثم تحوّلت إلى جري كامل. كانت الأرض تنزلق تحت قدمي كأنها تريد دفع جسدي إلى السقوط، وكلما تعثرتُ ارتفع خلفي ذلك النباح المزعج، وكأنه يضحك.
سمعتُ عواءً جديدًا،
هذه المرة أقرب… أقرب بكثير. التفتّ، ولم أرَ سوى عينين تلمعان بلون أصفر باهت،
تشبهان جمرتين في صدر الظلام. لم أتمكن من فهم ملامح الكائن، لكني رأيت طريقة مشيته، انحناء ظهره، الطريقـة التي تحرّك بها رأسه نحو صدري…
لم يكن ذئبًا، ولم يكن كلبًا، بل شيء ثالث لا يعترف بتصنيفات البشر.
قفزتُ خلف جذع شجرة محطمة، لكن الصوت تبعني؛ أنفاس ثقيلة، قريبة كشهيق لصيق بأذني. هرولت من جديد، أشعر وكأن الليل نفسه يركض خلفي.
ورغم كل هذا الرعب، لم يفارق رأسي صوتي الداخلي يكرر في سخرية بليدة
“ما دام الأمر يسير على نحو سيئ… فانتظر الأسوأ”
بعد دقائق أو ساعات لم أعد أميز الزمن—وجدت نورًا خافتًا يتسرّب من كوخ صغير يقف عند حافة الغابة.
اندفعت نحوه كما يندفع الغريق إلى خشبة طافية . طرقت الباب بجنون، لكن الصوت خلفي توقف.
اختفى.
الصمت عاد فجأة كأن شخصًا ما ضغط زرّ الإيقاف للعالم.
فتح الباب رجلٌ نحيل، عيناه غريبتان…
فيهما شيء من البريق الأصفر الذي رأيته قبل قليل. ابتسم،
وقال بصوت هادئ لا يطمئن أحدًا
“كنتُ أنتظرك.”
وفي اللحظة نفسها سقط ضوء القمر من بين السحب عليهم، وكشف أن للظلّ خلف الرجل شكلًا لا يشبه البشر… ولا الحيوانات.
لا أتذكر ما حدث بعدها.
كل ما أعرفه أنني استيقظت عند حافة الغابة مع بزوغ الفجر،
ملابسي ممزقة، وقلبي يخفق بإيقاع لا أعرفه.
ومنذ تلك الليلة، كلما نظرتُ إلى القمر،
أشعر بأن الظل الذي كان يطاردني…
لم ينتهِ بعد.
ورغم كل هذا، ما زالت الجملة التي كنت أرددها بسذاجة تلاحقني مثل لعنة صغيرة
“ما دام الأمر يسير على نحو سيئ… فانتظر الأسوأ”
إنها جملة سخيفة، أعرف…
لكن المشكلة أ
نها أصبحت الآن ،
الحقيقة الوحيدة التي أثق بها.
