بقلم السيد عيد
في كلّ قلبٍ إنسان غرفةٌ صغيرة لا يدخلها ضجيج العالم، ولا تطفئها خيبات الأيام. غرفةٌ يظلّ نورها خافتًا؛ لا يكاد يُرى، لكنه وحده القادر على إنارة أرواحٍ أنهكها الركض الطويل. تلك الغرفة اسمها: الروح حين تتذكّر حقيقتها… وحين تتذكّر ربّها.
نحنُ لا نكبر بالأعوام، بل بالأسئلة التي نخفيها تحت الوسادة كلّ ليلة. تلك الأسئلة التي لا نبوح بها لأحد، لأنها ليست للناس… بل لنا ولله وحده. لماذا نمضي؟ ولِمَن؟ وما الذي يجعل خطواتنا، رغم ثِقلها، تتجه دائمًا نحو نورٍ لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالقلب؟
وفي لحظة صفاء، حين يهدأ كلّ شيء، تحاسب الروح نفسها أمام الله: هل أخطأت؟ هل ظلمت؟ هل قصّرت؟ تلك المحاسبة ليست خوفًا فحسب، بل رغبة صادقة في أن تعود الروح إلى طريقها الذي خُلقت من أجله، طريق المحبة والرضا واليقين.
يقولون إن الإنسان يبحث عن السعادة. لكن الحقيقة الأعمق أنه يبحث عن لحظة صدق مع ذاته أمام الله، لحظة يشعر فيها أن نبضه ينساب بلا خوف، وأن روحه تقف أمام مرآتها بلا أقنعة. لحظة يعرف فيها أن معنى الحياة ليس شيئًا نُمسكه، بل روحًا نُطهّرها، وقلوبًا نرفعها، ودربًا نمشيه ونحن نعرف أن الله أقرب إلينا من كل ما نخشى.
هناك لحظات لا تُنسى:
نظرة صادقة تقف على حدود العيون كأنها تستأذن للدخول…
رائحة كتابٍ عتيق تفتحه فتنساب منه حياةٌ لم تعشها بعد…
أغنية تأتي من زمن بعيد فتربّت على كتف قلبك فتذكِّرك بما كان جميلًا…
أو كلمة عابرة توقظ في داخلك مدينة كاملة كانت نائمة تحت الرماد.
في تلك اللحظات نكتشف أن الفلسفة ليست فخامة الكلمات، بل حنان الفكرة حين تلمس أعماق الروح. وأن الأدب ليس صنعة، بل ومضة… تومض في لحظة صدق، فتجعل الكون كلّه يتسع في جملة واحدة، وتجعلك تدرك أن كل جمال في الدنيا إنما هو ظلّ لجمالٍ أعظم.
وما أجمل أن نفهم أن كل نهاية عبرناها لم تكن خيبة، بل كانت لطفًا إلهيًا خفيًا يدفعنا نحو الصواب. وأن كل بابٍ أغلق في وجوهنا إنما كان يعلّمنا ألا نقف طويلًا أمام ما هجرنا، وأن نلتفت إلى ما ينتظرنا بصبر وثقة، فالله لا يغلق بابًا إلا ليفتح خيرًا منه.
أروع ما في الإنسان أنه، رغم كل شيء، يظلّ قادرًا على الدهشة؛
قادرًا على أن يشرب من نبع الحياة جرعة جديدة كلما عطش؛
قادرًا على أن يولد من جديد دون أن يُغيّر اسمه، لأن الله يخلق في القلب ربيعًا كلما اعتقدنا أن الشتاء طال.
فالدهشة ليست رفاهية… إنها علامة حياة.
وعندما تُدهشك الأشياء من جديد، فاعلم أن الروح تلك التي ظننتَ أنها تعبت ما زالت تملك أجنحة لم تُجرّب الطيران بها بعد. وأن الله، في لحظة صدق، قادر على أن يمنحك سماءً جديدة، وقلبًا أوسع، ونورًا يمشي معك أينما ذهبت.
