طه حسين .. صاحب بصيرة متجاوزة

كتب – سيد هويدي
احترت كثيرًا من الحدس الذي يصل لليقين، والتجلي العبقري الذي ملأ وجدان قامة، مثل عميد الأدب العربي، طه حسين؟ ومن أين جاءت هذه الطاقة الثورية المتمردة، وما كل هذا الاستشراف الذي حدد بوصلته في اتجاه التنوير، وهو فاقدٌ لبصره؟ لقد تردد أنه في بعض الأحيان، كان يتعرف على لون الملابس التي كان يرتديها محدثه..! لذلك قد يُفسَّر، أن صاحب صيحة التعليم كالماء والهواء، نراه في أول هدية أهداها للسيدة سوزان قبل زواجه منها، كانت لوحة العذراء، تلك التي يضمها متحفه رامتان بالقرب من الهرم، فقد كان صوت سوزان وهي تقرأ مقطعًا من شعر راسين، سببًا أن تلج قلبه، بعد سماعها، إنها البصيرة التي يفتقدها بعض المبصرين، ويمتلكها أصحاب الرؤى، فقد لُقِّب بـ مارتن لوثر الشرق ورينان مصر الضرير، وبالتأكيد لا جائزة الدولة التقديرية في الأدب العربي أو قلادة النيل الكبرى، التي حصل عليها عام 1965، هي التي منحته تلك المكانة في الضمير الجمعي المصري والعالمي، لكن عزمه على الإجابة على سؤال التقدم.
من رحم الصعيد الجواني خرج طه حسين إلى المعارك الحياتية والأدبية، فعلى بعد كيلو واحد من مدينة مغاغة محافظة المنيا وُلِد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، كان والده حسين علي موظفًا بشركة السكر وله ثلاثة عشر ابنًا، هو سابعهم في الترتيب، حيث أصابه رمد فعالجه الحلاق علاجًا ذهب بعينيه. وكانت هذه العاهة هي السبب في الكشف مبكرًا عن ملكات طه حسين، فقد استطاع تكوين صورة حية في مخيلته عن كل فرد من أفراد عائلته اعتمادًا على حركة وصوت كل منهم، بل كانت السبب المباشر في الكشف عن عزيمته بعد أن قرر التغلب على عاهته بإطلاق العنان لخياله إلى آفاق بعيدة.
كان سياج القصب الذي يحيط بمنزل طه بقريته هو دليله إلى الشارع، فعندما تغرب الشمس وتغشى الناس فيتمسك بهذا السياج وكأنه بوصلته التي تحدد اتجاهه، في الوقت الذي يتأمل مغرقًا في التفكير حتى يرده إلى ما حوله صوت الشاعر قد جلس على مسافة من شماله والتف حوله الناس وأخذ ينشد في نغمة غريبة أخبار أبي زيد الهلالي وخليفة ودياب.
استمد طه حسين نور خياله من تلك الأوهام التي استبدت به وهو صغير، فكان إذا اختلى إلى نفسه في مرقده بالحجرة الصغيرة لا يلبث أن يستيقظ والناس نيام من حوله وإخوته يغطون في نوم عميق، فيلقي اللحاف على وجهه في خيفة وتردد لأنه كان يكره أن ينام مكشوف الوجه، اعتقادًا أن من يخرج أحد أطرافه من اللحاف لابد أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أغلب البيت وتملأ أرجاءه ونواحيه، والتي كانت تهبط تحت الأرض مع إضاءة الشمس، وكم من ليالٍ طوال قضاها طه متيقظًا بسبب أصوات صياح الديكة ونباح الكلاب وتلك الأهوال ومشاعر الرعب والخوف من العفاريت، للدرجة التي لا تجعله يستطيع النوم إلا إذا وصل إلى سمعه أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة وهن يتغنين: الله يا ليل الله… ليعرف أنه قد بزغ الفجر وهبطت العفاريت إلى مستقرها من الأرض السفلى، فاستحال هو عفريتًا وأخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ ويتغنى بما حفظ من نشيد الشاعر ويتولى إيقاظ إخوته واحدًا تلو الآخر.
الاتجاه للشمال
وإذا كان طه حسين قد أتم حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره، فإنه قد اتجه إلى الشمال بعد ذلك بأربع سنوات، حيث بدأت رحلته الكبرى عندما غادر المنيا متوجهًا إلى الأزهر طلبًا للعلم.
في عام 1908 بدأ يضيق بمحاضرات معظم شيوخ الأزهر فاقتصر على حضور بعضها فقط، مثل درس الشيخ بخيت ودروس الأدب. وفي العام ذاته أُنشِئت الجامعة المصرية، فالتحق بها طه حسين وسمع دروس أحمد زكي باشا في الحضارة الإسلامية، وأحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة، ودروس الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والأدب والفلسفة، ثم أعد طه حسين رسالته للدكتوراه التي نوقشت في عام 1914م وكانت عن ذكرى أبي العلاء، وكانت أول كتاب قُدِّم إلى الجامعة وأول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصرية.
وقد أحدث نشر هذه الرسالة في كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت إلى حد طلب أحد نواب البرلمان حرمان طه حسين من حقوق الجامعيين لأنه ألَّف كتابًا فيه إلحاد وكفر! ولكن سعد زغلول أقنع النائب بالعدول عن مطالبه. وفي نفس العام سافر طه حسين إلى فرنسا ضمن بعثة من الجامعة المصرية والتحق هناك بجامعة مونبلييه ودرس اللغة الفرنسية وعلم النفس والأدب والتاريخ.
في باريس التحق بكلية الآداب بجامعة باريس وتلقى دروسه في التاريخ، ثم في الاجتماع، وقد أعد رسالة على يد عالم الاجتماع الشهير إميل دوركايم عن موضوع الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، وأكملها مع بوجليه بعد وفاة دوركايم، وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه في عام 1919م، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية.
خطف صوت الطالبة سوزان قلب وعقل طه حسين، وهي تقرأ مقطعًا من شعر راسين، عندها أحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها، وتعلق قلبه بها، وتكلل هذا الإعجاب بالزواج في 9 أغسطس 1917، وعادت معه السيدة سوزان إلى مصر عام 1919. عاد طه حسين إلى مصر فعُيِّن أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني، واستمر كذلك حتى عام 1925 حيث تحولت الجامعة المصرية في ذلك العام إلى جامعة حكومية، وعُيِّن طه حسين أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب.
معارك التنوير
وقد بدأت معركة طه حسين الكبرى من أجل التنوير واحترام العقل في عام 1926 عندما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي، الذي أحدث ضجة كبيرة، ورفعت دعوى قضائية ضد طه حسين، فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وأوقفت توزيعه.
حياته كانت سلسلة من المعارك الفكرية التي لم تتوقف، حتى توفي عام 1973، تاركًا إرثًا ثقافيًا وفكريًا ضخمًا أثرى المكتبة العربية وزادها تنوعًا وإبداعًا.