بقلم / السيد عيد
تفوح رائحةُ الذرةِ المشويّة كأنها نَفَسُ الأرض بعد المطر، دافئةٌ، صادقةٌ، تأخذ بيد القلب إلى حيث البساطة الأولى. على ناصية الطريق، يقف البائع العجوز يراقب جمراً يتوهّج ببطء، كأنه يحرس شمسًا صغيرة في قلب الليل. يدور بالكوز على الجمر، فينضح العطر، ويتصاعد الدخان في رقصةٍ حالمةٍ كأنها أنفاسُ الزمان.
في تلك اللحظة، لا شيء يعلو على موسيقى الطرقعة الخفيفة حين تتفتح حباتُ الذرة في حضن النار. كأنها تغنّي للحياة رغم احتراقها، أو تقول لنا بصوتٍ خافت: إن النضج لا يولد إلا من الصبر، وأن الجَمال لا يكتمل إلا بلمسة ألم.
كم في الذرة المشويّة من حكايةٍ تشبهنا!
نحمل في داخلنا بذورًا من الخير، لا تفيض رائحتها إلا إذا مرّت على نار التجربة. نحترق قليلًا، لكننا نصير أطيب، أصدق، أكثر دفئًا.
البائعُ، بوجهه الذي حفرت عليه السنين خرائط التعب، لا يبيع الذرة فحسب، بل يبيع لحظةَ دفءٍ في زمنٍ بارد. في يده كوزٌ يتحوّل إلى قصيدة، وفي عينيه صبرُ من يعرف أن رزقه لا يأتي إلا مع ابتسامةِ العابرين.
يمر الناس، كلٌّ يحمل همَّه، لكنّ الرائحة تُوقِفهم جميعًا. رائحةٌ تُشبه بيتَ الجدّة، وليلَ القرية، وضحكةَ صِغَرٍ لم نعد نملكها. يمدّ أحدهم يده، يشتري كوزًا، ثم يمضي مبتسمًا كأنما استعاد شيئًا من روحه كان ضائعًا بين زحام الأيام.
آهٍ من تلك الحبات الصفراء حين تُقبِّلها النار…
تصيرُ ذهبًا، لا يُزيَّنُ به عنقُ امرأةٍ، بل تُزيَّنُ به الذاكرة.
وحين تنتهي من آخر حبةٍ، وتُلقي بالكوز في سلةٍ جانبية، تشعر أن شيئًا فيك انطفأ… وشيئًا آخر اشتعل.
تدرك أن الذرة المشويّة ليست طعامًا يُؤكل، بل حنينٌ يُتذوّق، وأن ما تفوح به من عطرٍ ليس سوى رائحة الأيام الجميلة التي ما زالت تحترق فينا برفق.
